السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، و نسأل الله تعالى أن يرزقنا و إياكم العلم النافع والعمل الصالح، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علما وفقها في الدين واجعلنا هداة مهتدين.
هذا حديث عظيم من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، يضع قاعدة أساسية في علاقة المسلم بولي الأمر وفي منظومة الطاعة عمومًا. وإليك الشرح المفصل:

---

1. شرح المفردات:

● السمع: هو الاستماع والقبول بالأذن والقلب.
● الطاعة: هي الانقياد والامتثال للأمر تنفيذًا له.
● المرء المسلم: يشمل كل فرد مسلم، رجلاً كان أو امرأة.
● فيما أحب وكره: في الأمور التي يوافق فيها هواه والتي تخالفه، في الشدة والرخاء، في السهل والصعب.
● معصية: كل ما يخالف أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، سواء كانت معصية في ذاتها (كشرب الخمر) أو في طريقة تنفيذ الأمر (كأخذ مالٍ ظلمًا).
● مالم يؤمر بمعصية: ما لم يكن الأمر الذي يُطلب منه الطاعة فيه معصية لله تعالى.
● فإذا أمر بمعصية: إذا كان الأمر يتضمن مخالفة صريحة للشرع.
● فلا سمع ولا طاعة: أي لا يجوز له الاستماع لذلك الأمر ولا الطاعة فيه.

---

2. شرح الحديث:

يؤسس النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مبدأً عظيمًا من مبادئ الإسلام، ألا وهو وجوب طاعة ولي الأمر (الحاكم، الرئيس، المسؤول...) في غير المعصية، وذلك لتحقيق مصلحة الجماعة ونظام الأمة ودرء الفوضى والاختلاف.
● "السمع والطاعة على المرء المسلم": هذا أصل عام وحكم شرعي ثابت، فهو ليس خيارًا، بل هو واجب على كل مسلم تجاه من ولاه الله عليه أمره، في إطار الشرع.
● "فيما أحب وكره": هذه الطاعة ليست مقيدة برضا المرء أو هواه، بل يجب أن تكون في كل ما يأمر به ولي الأمر مما هو داخل في طاعته، حتى لو كان ذلك شاقًا على النفس أو مخالفًا لهواها. وهذا يشمل أوامره في الأمور العامة والخاصة التي تدخل تحت ولايته.
● "ما لم يؤمر بمعصية": هذا هو القيد والاستثناء الذي يمنع الانحراف بالطاعة المطلقة إلى طاعة عمياء. فطاعة المخلوق لا تسوغ معصية الخالق.
● "فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة": هنا يرفع النبي صلى الله عليه وسلم الإثم عن المسلم إذا امتنع عن الطاعة في حالة واحدة فقط، هي إذا كان الأمر يتضمن معصية صريحة لله تعالى. فليس له أن يسمع لذلك الأمر ولا أن يطيعه، بل يجب عليه عصيانه في المعصية.
فالطاعة للبشر مقيدة بطاعة الخالق. فإذا تعارضت طاعة المخلوق مع طاعة الخالق، قدمت طاعة الخالق قطعاً. فليس لأحد أن يطاع في معصية الله، لأن طاعة الله مقدمة على طاعة أي أحد.
وهذا ليس تشجيعاً على الفوضى أو الخروج على الأئمة، بل هو ضابط شرعي يحمي المجتمع من الظلم والانحراف. فلو أمرك والدك بشرب الخمر، أو أمرك مديرك في العمل بالكذب والغش، أو أمرك الحاكم بترك الصلاة، فلا طاعة له في ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» (متفق عليه).
ملاحظة دقيقة: الحديث عن الأمر بمعصية، أي أن يأمره ولي الأمر بفعل شيء محرم قطعًا (كالكفر، الظلم، أكل الحرام...)، وليس عن كون ولي الأمر نفسه قد يُصدر معصية في حقه الشخصي. فالأمر هنا متعلق بـ توجيه أمر مباشر للمخاطب بفعل معصية.

---

3. الدروس المستفادة والعبر:

1- ضبط مفهوم الطاعة: الإسلام لا يأمر بالطاعة العمياء أبدًا، بل يربطها دائمًا بحدود الشرع. الطاعة لله أولاً، ثم لرسوله، ثم لأولي الأمر تبعًا لذلك.
2- الحرية المسؤولة: المسلم عبد لله وحده، وليس عبدًا لعبدٍ مثله. وهذا المبدأ يحرره من ذل العبودية لغير الله، حتى لو كان حاكمًا.
3- حفظ نظام المجتمع: الأمر بالطاعة في غير المعصية يحقق الاستقرار والأمن ويمنع الفوضى والفتن التي تنتج عن الخروج على الأئمة من أجل أمور دنيوية أو أهواء شخصية.
4- منهج الاعتدال: يقدم الإسلام حلًا وسطًا بين التمرد المطلق والاستسلام المطلق. فلا خروجَ على الحاكم لمجرد خطأ أو معصية شخصية منه، ولا طاعةَ له في معصية الله.
5- التضحية والانضباط: تأكيد على معنى الانضباط الجماعي والتضحية بالرأي الشخصي والهوى في سبيل المصلحة العامة، ما دامت في إطار الحلال.

---

ثالثاً. فوائد من الحديث:

1- تقديم طاعة الله على كل طاعة: فهي الطاعة المطلقة التي لا استثناء فيها. أما طاعة البشر فمشروطة بعدم معصية الله.
2- المنهج الوسط في التعامل مع ولاة الأمر: فليس من منهج الإسلام الطاعة العمياء لكل أمر، وليس من منهجه أيضاً التحريض على الفتنة والخروج لأدنى سبب. بل الطاعة في المعروف، والمنع من الطاعة في المنكر.
3- ضمان استقرار المجتمع: هذه القاعدة تمنع الحاكم من تجاوز حدوده واستغلال سلطته في إذلال الناس ومعصية الله، كما تحميه من الفوضى والتمرد غير المبرر.
4- الحفاظ على الدين والفردية المسلمة: فالمسلم عبد لله وحده، لا يُذل إلا له، ولا يخضع إلا لأمره. فهي تحرر المسلم من عبودية الأشخاص إلى عبودية الله وحده.
5- الفقه في الموازنات: يتعلم المسلم من هذا الحديث كيف يوازن بين الواجبات، وكيف يقدم الأهم على المهم عند التعارض.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

- هذا الحديث أصل من أصول فقه السياسة الشرعية وعلاقة الرعية بالحاكم.
- يجب النصيحة لولي الأمر بالطرق الشرعية السلمية إذا أخطأ، وليس الخروج عليه أو التمرد، كما في الحديث: «الدين النصيحة... لأئمة المسلمين وعامتهم».
- هذا الحديث يفسر قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]. فطاعة أولي الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله، وليست مستقلة.
- من الآداب عند الامتناع عن الطاعة في المعصية أن يكون ذلك بأسلوب حكيم ولين، مع القدرة على شرح السبب الشرعي لعدم الطاعة، وليس بالمواجهة أو الإساءة، ما أمكن ذلك.
- يشمل الحديث جميع صور الطاعة: طاعة الوالدين، طاعة الزوج لزوجته في المعروف، طاعة الموظف لمديره، طاعة الجندي لقائده، وطاعة الرعية للحاكم.
أسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والذين يطيعونه ولا يعصونه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.