أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا حديث عظيم من أحاديث النبي الكريم ﷺ، يرشدنا إلى كيفية التعامل مع حالات الظلم والإجحاف التي ستقع بعد وفاته. دعونا نشرحه شرحاً وافياً على النحو التالي:
### أولاً. نص الحديث
عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله ﷺ: «إنكم سترون بعدي أثرة وأمورًا تنكرونها». قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم».
(رواه البخاري ومسلم)

### ثانياً. شرح المفردات
● سَتَرَوْنَ: ستشهدون وتلاحظون.
● أَثَرَةً: من "الإيثار" ولكن هنا بمعنى الاستئثار، أي أن يفضل الحكام والولاة أنفسهم وأقاربهم بالمصالح والمنافع على عامة الناس، فيأخذوا الحقوق لأنفسهم ويحجبوها عن غيرهم.
● تَنْكِرُونَهَا: تستغربونها وتستنكرونها لكونها مخالفة للشرع والعدل.
● أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ: أعطوا الولاة والحكام ما لهم من حقوق، مثل الطاعة في المعروف والانقياد لهم في غير معصية.
● وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ: اطلبوا من الله تعالى أن يعطيكم حقوقكم التي منعها من بيدهم الأمر.

### ثالثاً. شرح الحديث
يخبر النبي ﷺ أصحابه أنهم سيشهدون بعد وفاته أياماً وأحوالاً ليست على ما يعرفون من العدل والإنصاف، حيث سيستأثر بعض الحكام والولاة بالخيرات والمصالح لأنفسهم أو لعصبياتهم، وسيقومون بأمور منكرة ومخالفة للشرع.
فاستفسر الصحابة رضي الله عنهم عن الموقف الشرعي الواجب اتخاذه في مثل هذه الظروف الصعبة، فقالوا: "فما تأمرنا يا رسول الله؟".
فأمرهم النبي ﷺ بأمرين عظيمين هما منهج متكامل للتعامل مع هذه الفتن:
1- «أدوا إليهم حقهم»: وهذا هو الجانب العملي الواجب تجاه الولاة. فمع ظلمهم واستئثارهم، يبقى لهم حق الطاعة في المعروف، وعدم الخروج عليهم بالسيف، وأداء ما أوجب الله من حقوق مثل النصيحة بالتي هي أحسن، والجهاد معهم، وأداء الصلاة خلفهم، وغير ذلك من الحقوق التي بينها الشرع للحكام حتى وإن قصروا في حق الرعية. هذا الأمر يحفظ الجماعة ويصون وحدة المسلمين ويمنع الفوضى والهرج.
2- «وسلوا الله حقكم»: وهذا هو الجانب العبادي والدعوي. فبدلاً من اللجوء إلى العنف والفتن، يلجأ المسلم إلى ربه تعالى بالدعاء والتضرع أن يرد له حقه، وأن يصلح حال الحكام، أو يعوضه خيراً في دينه ودنياه. فالله تعالى هو الذي بيده قلوب العباد وهو ناصر المظلوم.

### رابعاً. الدروس المستفادة والعبر
1- صدق نبوة رسول الله ﷺ: فقد أخبر بأمور غيبية وقعت كما قال، فكان عهد الخلفاء الراشدين على justice والعدل، ثم جاءت بعدها فتن وظهرت الأثرة.
2- الحكمة في التعامل مع الفتن: ليس الحل في كل حال هو المواجهة والعنف، بل الحكمة والحلم وضبط النفس، والحفاظ على كيان الأمة.
3- التفريق بين الحق والواجب: فحقك عليك أن تطالب به أو تطلب من الله أن يعطيك إياه، ولكن واجبك towards others يجب أن تؤديه كاملاً حتى ولو لم يؤدوا هم واجبهم تجاهك. هذا من كمال الأخلاق والإيمان.
4- الدعاء سلاح المؤمن: ففي حال العجز عن دفع الظلم باليد أو اللسان، يبقى الدعاء هو الملاذ والملجأ، وهو من أعظم العبادات.
5- تحريم الخروج على الولاة: إلا في حال محددة وشروط شديدة بينها العلماء، ومنهج النبي ﷺ هنا هو الصبر على جورهم ما أقاموا الصلاة، وعدم منازعتهم الأمر إلا بكفر صريح.

---

خامساً:

معلومات إضافية
- هذا الحديث هو أصل من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة في باب التعامل مع ولاة الأمر.
- "الأثرة" قد تكون في المال، أو في المنصب، أو في القرارات المجحفة.
- منهج النبي ﷺ هذا هو منهج التغيير السلمي الحكيم، القائم على أداء الواجبات وطلب الحقوق من الله تعالى، وهو منهج يعصم الأمة من التمزق والفرقة.
أسأل الله أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وأن يرزقنا الحكمة في الأمر كله.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.