أكثر صلاته وهو جالس وأحب الأعمال إليه ما دام عليه

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
حياكم الله و بياكم أيها السائل الكريم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب. هذا حديث عظيم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، يرويه لنا الصحابية الجليلة أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، وهو حديث صحيح رواه الإمام مسلم في صحيحه.
وفيما يلي شرح وافٍ للحديث على النحو المطلوب:

---

أولاً. شرح المفردات:

● الذي ذهب بنفسه ﷺ: قَسَمٌ من أم سلمة رضي الله عنها بالنبي صلى الله عليه وسلم، تعظيماً له وتأكيداً على صحة ما تقوله، أي: والذي افتداه بنفسي وحياتي.
● أكثر صلاته: غالبية صلواته النافلة.
● وهو جالس: أي يصلي النافلة وهو في وضعية الجلوس، حتى وإن كان قادراً على القيام.
● العمل الصالح: أي الطاعة والقربة التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى.
● يدوم عليه العبد: يداوم عليه ويواظب ولا يهجره ولا يمل منه.
● وإن كان يسيرًا: حتى لو كان هذا العمل قليلاً في كميته أو بسيطاً في أدائه.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبرنا هذا الحديث عن حال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، وعن قاعدة عظيمة من قواعد قبول العمل وثوابه.
1- حال النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة:
تشهد أم سلمة رضي الله عنها – وهي من أخص الناس به صلى الله عليه وسلم – أنه في أواخر أيامه كان يُكثر من الصلاة جالساً. وهذا لا يعني ترك السنن الرواتب أو الصلوات المفروضة قائماً، بل المقصود صلوات النوافل والتطوع. والسبب في ذلك يعود إلى:
- ثقل الوحي ومشاق الدعوة والجهاد التي أثرت على صحته الجسدية في آخر عمره.
- تقدم سنه الشريف صلى الله عليه وسلم.
- إرشاداً لأمته إلى الرخصة واليسر، وبياناً أن فضل الصلاة قاعداً لمن عذر أو لحاجة هو على النصف من أجر الصلاة قائماً، كما في الحديث الصحيح: «صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة». فكان يفعل ذلك ليعلم أمته أن الدين يسر.
2- أحب الأعمال إلى الله:
يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم معياراً مهماً لقبول العمل وعلو درجته عند الله، ألا هو دوام العمل واستمراره، وليس كثرة العمل مع الانقطاع. فالعمل القليل الذي يواظب عليه العبد خير وأحب إلى الله من العمل الكثير الذي يفعله المرء مرة ثم ينقطع عنه وينساه. وذلك لأن:
- الدوام على الطاعة دليل على صدق المحبة والإخلاص لله تعالى.
- المداومة على العمل تثبته في قلب العبد وتجعله سجيةً من سجاياه وعادةً من عاداته، فيصعب عليه فراقه.
- العمل الدائم هو الذي ينجي العبد ويقوده للاستمرار على الطاعة حتى الممات، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل».

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- اليسر ورفع الحرج في الإسلام: فعل النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة جالساً وهو القادر على القيام فيه تيسير على الأمة وتعليم لها أن تتخذ بالأسباب المشروعة عند الحاجة أو المشقة، دون حرج أو تكلّف.
2- القدوة العملية: النبي صلى الله عليه وسلم هو المعلم الأول، فهو لا يكتفي بالقول بل يترجم التعاليم إلى أفعال ليرى أصحابه كيف يطبقونها.
3- قيمة المداومة على الطاعة: هذا من أعظم الدروس في الحديث. فليس المطلوب من المسلم أن يكون بطلاً في العبادة في ليلة ثم ينقطع لشهور، بل المطلوب أن يكون عبداً ربانياً يواظب على طاعة الله ولو كانت قليلة، كورد من القرآن، أو ذكر معين، أو صدقة يومية يسيرة.
4- الحكمة من قلة العمل مع الدوام: أن القليل الدائم يُدرك الكثير المنقطع، بل قد يفضله لأن فيه إخلاصاً وثباتاً. فصيام ثلاثة أيام من كل شهر خير وأفضل من صيام شهر كامل ثم الانقطاع عنه.
5- التناسب بين العمل والقدرة: الإسلام دين الفطرة، يراعي طاقة الإنسان وقدرته، فلا يكلفه ما لا يطيق، ليبقى نشيطاً على الطاعة لا ملولاً منها.

---

رابعاً. معلومات إضافية مفيدة:

- هذا الحديث أصل عظيم في باب "الاقتصاد في العبادة" وحث العلماء عليه، خاصة للدعاة وطلاب العلم، كي لا يملوا وينقطعوا.
- يستفاد منه أيضاً أهمية اختيار الأعمال الصالحة التي تناسب حال المرء وظروفه، ليكون قادراً على المداومة عليها.
- ينبغي للمسلم أن يختبر نفسه ويختار من الأوراد والأذكار ما يستطيع المداومة عليه، ولو كان عشر استغفارات بعد كل صلاة، فهي خير من ألف استغفارة في يوم ثم يهجرها.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.