من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذّب به يوم القيامة

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فهذا حديث عظيم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، يضم بين جنباته أربع مسائل مهمة من مسائل الدين، أرويها لنا الصحابي الجليل ثابت بن الضحاك رضي الله عنه، وهو من أهل بيعة الرضوان تحت الشجرة، مما يزيد الحديث قوة واعتباراً.

---

أولاً. شرح مفردات الحديث:

● حلف على ملة: أي أقسم وحلف بأنه على دين غير الإسلام.
● فهو كما قال: أي يحكم عليه بما نطق به من الكفر.
● نذر فيما لا يملك: النذر هو التزام قربة غير لازمة، وقوله "فيما لا يملك" أي في شيء ليس تحت تصرفه أو ملكه.
● عذب به: أي يعاقب بنفس الأداة التي قتل بها نفسه.
● لعن مؤمناً: اللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله.
● قذف مؤمناً بكفر: أي اتهمه بالكفر ونسبه إليه.

---

ثانياً. شرح الحديث مسألة مسألة:

---

# المسألة الأولى:

"من حلف على ملة غير الإسلام فهو كما قال"
● الشرح: هذا وعيد شديد لمن يحلف بالله كاذباً أنه على دين غير الإسلام، كأن يقول: "والله أنا نصراني" أو "يهودي" وهو مسلم. ففي هذه الحالة، يحكم عليه بكفره لأنه استهان بالدين واستخف بأمر الله، وصار كقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65-66]. وهذا الحكم عند جمهور العلماء إذا قاله جاداً غير هازل.

---

# المسألة الثانية:

"وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك"
● الشرح: النذر عبادة وقربة إلى الله، ولكنه لا يصح في شيء لا يملكه الإنسان، كأن ينذر أن يتصدق بمال ليس له، أو يذبح شاة ليست ملكاً له. فالنذر الصحيح هو فيما يملكه الإنسان ويقدر على الوفاء به. وهذا من رحمة الله تعالى بعدم إلزام العبد بما لا طاقة له به.

---

# المسألة الثالثة:

"ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة"
● الشرح: هذا وعيد شديد لمن يقدم على الانتحار، وهو من كبائر الذنوب. فمن قتل نفسه بسكين أو سم أو غيره، فإنه يعذب بهذا الأسلوب يوم القيامة، كما جاء في الصحيحين: "ومن قتل نفسه بحديدة؛ فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً". وهذا التحذير الشديد ليبعد المسلم عن هذا الفعل الشنيع الذي هو استعجال للموت واعتراض على قضاء الله.

---

# المسألة الرابعة:

"ومن لعن مؤمناً فهو كقتله، ومن قذف مؤمناً بكفر فهو كقتله"
● الشرح: اللعن هو الدعاء على الشخص بالإبعاد من رحمة الله، وهذا منكر عظيم إذا وقع على مؤمن. ففي الصحيح: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان". فمن لعن مؤمناً فكأنه قتله؛ لأنه تمنى هلاكه وخروجه من رحمة الله. وكذلك من قذف مؤمناً بالكفر، أي نسبه إلى الكفر بغير حق، فهذا من أعظم الإفك والبهتان، وقد يحكم عليه بالكفر هو نفسه إن استحل ذلك، لأنه مكذب لله تعالى في وصفه لهذا الشخص بالإيمان.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة من الحديث:

1- عظمة أمر الدين: فالاستهانة بالدين أو الحلف على الكفر من الأمور التي تخرج من الملة، فيجب على المسلم أن يعظم دين الله ولا يتلاعب بأمر العقيدة.
2- التيسير في النذر: النذر ليس محبوباً في الأصل، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل" (متفق عليه). فإذا نذر الإنسان فيجب أن يكون في حدود ما يملكه ويستطيعه.
3- تحريم الانتحار: وهو جريمة كبرى ضد النفس التي هي أمانة من الله، ولا يجوز لأحد أن يزهقها بغير حق. والمسلم يتوكل على الله ويصبر على البلاء.
4- حرمة المؤمن: فالمؤمن له حرمة عظيمة، فلا يجوز لعنه أو اتهامه بالكفر بغير بينة، لأن في ذلك اعتداء على حرمة الإيمان الذي في قلبه.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- هذا الحديث رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، مما يدل على صحته وأهميته.
- المسائل الأربع في هذا الحديث من المسائل الكبرى التي تحتاج إلى وعي وتذكير، خاصة في زمن كثرت فيه الاعتداءات على الأديان وحرمات الناس.
- ينبغي للمسلم أن يحذر من اللسان وما يخرج منه، فإن الكلمات قد تودي بصاحبها إلى الهاوية، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب" (متفق عليه).
نسأل الله تعالى أن يحفظ ألسنتنا من الزلل، وأن يثبتنا على دينه، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.