من حلف على يمين ثم رأى أتقي الله منها فليأت التقوى

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فأقدم لكم شرحًا وافيًا لهذا الحديث النبوي الشريف معتمدًا على كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.
الحديث:
عن تميم بن طرفة قال: جاء سائل إلى عديّ بن حاتم، فسأله نفقة في ثمن خادمٍ أو في بعض ثمن خادم، فقال: ليس عندي ما أعطيك إلا درعي ومغفري، فأكتب إلى أهلي أن يعطوكها، قال: فلم يرض، فغضب عديّ، فقال: أما والله لا أعطيك شيئا، ثم إن الرجل رضي، فقال: أما والله لولا أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من حلف على يمين ثم رأى أتقي الله منها، فليأت التقوى» ما حنثت يميني.

---

1. شرح المفردات:

● سائل: شخص محتاج يطلب المساعدة والصدقة.
● نفقة في ثمن خادم: مال لشراء خادم أو المساهمة في ثمنه.
● درعي ومغفري: الدروع والمغافر (جمع مغفر) هي أدوات الحرب، فالدّرع لباس يحمي الجسم، والمغفر ما يحمي الرأس.
● لم يرض: لم يقبل عرض عديّ بن حاتم.
● غضب عديّ: انفعل بسبب عدم رضا السائل بعرضه.
● أما والله لا أعطيك شيئا: حلف على عدم إعطائه شيءًا.
● رَضِي: قبل السائل في النهاية بعرض عديّ.
● حَنِثْت يميني: نقضت يميني وحلفي.

---

2. شرح الحديث:

يروي هذا الحديث قصة حدثت مع الصحابي الجليل عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه، حيث جاءه سائل يطلب منه مالًا ليساعد في شراء خادم. لم يكن لدى عدي مال نقدي ليعطيه إياه، فعرض عليه أن يعطيه أدوات حرب ثمينة عنده (درعه ومغفره) ويكتب لأهله بتسليمها له. إلا أن السائل لم يرُضه هذا العرض في البداية، مما أثار غضب عدي فحلف بلهجة حازمة "أما والله لا أعطيك شيئا" ردًا على تطلعات السائل الزائدة.
لكن السائل تراجع عن موقفه ورضي بما عرضه عليه عدي في البداية. هنا وقع عدي في مأزق؛ فقد حلف أن لا يعطيه شيئًا، والآن يريد أن يعطيه ما وعده به. فتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأمر من حلف على شيء ثم رأى أن ترك هذا الحلف وفعْل ما هو أتقى لله هو الأولى، فيترك يمينه ويأتي بما هو أتقى.
فقدّم عدي بن حاتم التقوى على الوفاء باليمين في هذه الحالة، ونقض يمينه وأعطى السائل ما وعده به، مبررًا فعله هذا باتباعه لتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم.

---

3. الدروس المستفادة منه:

1- فضل التقوى وطلب رضا الله: الحديث يعلّمنا أن مرضاة الله تعالى وطلب التقوى مقدمان على أي شيء آخر، حتى على الوفاء باليمين إذا كان الوفاء بها سيؤدي إلى ترك أمرٍ أفضل أو الوقوع في إثم. فالأصل الوفاء باليمين، لكن إذا تعارض مع أمرٍ أتقى لله، فيُقدّم التقوى.
2- مرونة الشريعة وحكمتها: الشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، وليس للتعسف أو التشديد. فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يفتح بابًا للتخفيف على المسلم إذا حلف على شيء ثم تبين له أن الخير في غيره.
3- كفارة اليمين: من حلف ثم حنث في يمينه (أي نقضها) ليتقي الله، فإن عليه كفارة يمين، وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وهذا من رحمة الله تعالى بعباده.
4- التحلي بالحلم وسعة الصدر: نرى كيف أن غضب عدي بن حاتم كان لحظة عابرة، لكنه عندما هدأ رجع إلى الحكمة والورع، وهذا درس في التحكم في الانفعالات وردود الأفعال.
5- التأسّي بأخلاق الصحابة: قصة عدي بن حاتم توضح حرص الصحابة رضي الله عنهم على تطبيق سنة النبي صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة، وورعهم الشديد في أمور الدين.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

- هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وهو حسن.
- الحديث يدخل في باب "أيمان المسلمين" وكيفية التعامل معها.
- الفقهاء استنبطوا من هذا الحديث وأمثاله أن اليمين لا تكون ملزمة إذا حلفها الإنسان على فعل معصية أو ترك طاعة، بل يجب عليه حنثها (نقضها) وفعل ما هو أتقى لله.
- الموقف يظهر أيضًا كرم عدي بن حاتم رضي الله عنه وعرضه التبرع بمتعلقاته الثمينة لمساعدة المحتاج.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يرزقنا التقوى والورع في أقوالنا وأفعالنا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.