شرب النبي ﷺ من قربة معلقة قائما

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
الحديث الذي ذكر رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام الترمذي في سننه، وصححه الألباني. وهو حديث صحيح يدل على جواز الشرب قائماً، ويحمل في طياته العديد من الفوائد والعبر.
وفيما يلي شرح وافٍ للحديث على النحو المطلوب:

---

1. شرح المفردات:

● كَبْشَةَ الأَنْصَارِيَّةِ: هي صحابية جليلة، أم ولد الصحابي الجليل قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما.
● قِرْبَةٍ: هي وعاء يُصنع من جلد الحيوان ويُخاط ليحفظ فيه الماء أو اللبن.
● مُعَلَّقَةٍ: أي مُثَبَّتَة ومعلقة في مكان مرتفع لتبريد ما بداخلها أو لحفظه.
● إِهَابِهَا: (قمت إلى إهَابِهَا) الإهاب هو جلد الحيوان قبل أن يُدبغ. والمقصود هنا طرف القربة أو فتحتها التي يُشرب منها. فَعَلَت ذلك تكرمة للنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يشرب من موضع قد يكون متسخاً أو لتهيئة الشرب له بشكل أفضل.

---

2. شرح الحديث:

تخبرنا الصحابية الجلية كبشة الأنصارية رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها في بيتها، فوجد قربة من الماء أو اللبن معلقة، فشرب منها مباشرة وهو قائم دون أن يجلس أو يطلب إنزالهها.
فأسرعت هي إليه، وأخذت طرف فتحة القربة (الإهاب) فقطعته. ويفسر العلماء هذا الفعل بعدة تفسيرات محتملة، كلها تدل على أدبها ومحبتها للنبي صلى الله عليه وسلم:
● التكريم وطلب البركة: لعلها قطعته لتحتفظ به مكان شرب النبي صلى الله عليه وسلم تبركاً به.
● النظافة والاحترام: لعلها رأت أن موضع فم النبي صلى الله عليه وسلم على القربة صار مباركاً ولا ينبغي أن يشرب منه أحد بعده ففصلته.
● إرادة التيسير: لعلها أرادت أن تسهل عليه الشرب فقصت فتحة القربة لتكون أوسع.
وأهم ما في الحديث: هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث شرب قائماً من غير إنكار ولا استفسار، مما يدل على جواز الشرب قائماً وأنه ليس مكروهاً كراهة تحريم، بل هو جائز. وهذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم ينسخ أو يخصص الأحاديث التي فيها النهي عن الشرب قائماً، والتي تحمل على كراهة التنزيه أو أن النهي كان للتعليم بالأفضل، والأفضل هو الشرب جالساً، لكنه جائز قائماً.

---

3. الدروس المستفادة منه:

1- جواز الشرب قائماً: الحديث دليل صريح على إباحة الشرب قائماً، وأن النهي الوارد في أحاديث أخرى محمول على كراهة التنزيه أو على أنه الأولى والأكمل، وليس على التحريم. وهذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم حيث تنسخ الأفعال الأقوال أحياناً أو تخصصها.
2- بركة الصحابة ومحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم: يظهر من فعل كبشة الأنصارية رضي الله عنها حرصها الشديد على تكريم النبي صلى الله عليه وسلم وتقديمه على كل شيء، حتى على أمتعتها الشخصية، فهي لم تتردد في قطع قربتها من أجله.
3- التعامل مع سنة النبي الفعلية: أفعال النبي صلى الله عليه وسلم تشريع لأمته، وهي تبين الجواز، فما فعله فهو حجة في إباحته.
4- السماحة واليسر في الإسلام: الدين يسر، وليس فيه تشدد، فالشرب قائماً وجالساً كلاهما جائز، والأفضل الجلوس.
5- أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم: حيث كانت تصنع ما تراه مناسباً لتكريمه وإظهار محبته دون أن يأمرها بذلك.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

● الجمع بين الأحاديث: ورد النهي عن الشرب قائماً في أحاديث صحيحة، مثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يشربن أحد منكم قائماً..." (رواه مسلم). وأجمع العلماء على أن الجمع بين هذه الأحاديث يكون بأن النهي للكراهة التنزيهية (أي أن تركه أفضل) لا للتحريم، أو أن النهي كان في أول الإسلام ثم نسخ بالإباحة، أو أن النهي لمن يتعمد الشرب قائماً مع القدرة على الجلوس، وأما من شرب قائماً لحاجة أو لعارض فلا بأس. وفعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هو البيان العملي للإباحة.
● الحكمة من أفضلية الجلوس: ذكر الأطباء أن الشرب جالساً أجود للبدن وأرفه له، حيث يكون الجسم في حالة استقرار فينتفع بالماء أكثر، بينما الشرب قائماً قد يسبب تقطعاً في تدفق الماء بسرعة إلى المعدة مما قد يسبب ألماً أو ضرراً.
● الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم: ينبغي للمسلم أن يحرص على الأفضل وهو الشرب جالساً اقتداءً بغالب أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، فإن احتاج للشرب قائماً فلا حرج عليه لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.