أصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإليك شرح هذا الحديث الشريف شرحًا وافيًا مبينًا، مستندًا إلى كتب أهل السنة والجماعة:

---

نص الحديث:

عن أبي مروان أن كعبًا (كعب الأحبار، وهو من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا) حلف له بالله الذي فلق البحر لموسى: إنا لنجد في التوراة أن داود نبي الله كان إذا انصرف من صلاته قال: "اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته لي عصمةً، وأصلح لي دُنيايَ التي جعلت فيها معاشي، اللهم إني أعوذ برضاك من سَخَطِك، وأعوذ بعفوك من نِقْمَتِك، وأعوذ بك منك، لا مانع لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ولا ينفعُ ذا الجدِّ منك الجدُّ". قال: وحدثني كعب أن صُهيبًا (الصحابي الجليل صهيب الرومي رضي الله عنه) حدَّثه أن محمدًا ﷺ كان يقولهن عند انصرافه من صلاته.

---

1. شرح المفردات:

● فلق البحر لموسى: أي شق البحر وأنجاه وقومه وأغرق فرعون وجنوده، وهي من آيات الله العظيمة.
● عصمة: ما يعتصم به الإنسان من الضلال والهلاك، فالدين يحمي صاحبه في الدنيا والآخرة.
● معاشي: رزقي وما أعيش به في الدنيا.
● أعوذ برضاك من سخطك: ألتجئ إلى رضاك فأكون في حفظك، وأفر من غضبك وعقابك.
● أعوذ بعفوك من نقمتك: ألتجئ إلى صفحك ومغفرتك فأكون في أمان من انتقامك وعذابك.
● أعوذ بك منك: هذا من أعظم أنواع الاستعاذة، وهو الاستعاذة بالله من الله، أي الاستعاذة برحمته من عدله، أو بذاته من صفة من صفاته التي تقتضي العقاب.
● لا مانع لما أعطيت: لا يستطيع أحد أن يمنع ما قدّرته من عطاء ورزق.
● ولا معطي لما منعت: ولا يستطيع أحد أن يعطي ما منعته وقدرت حرمانه.
● ولا ينفع ذا الجد منك الجد: لا ينفع صاحب الغنى والحظوظ الدنيوية غناه وحظه عند الله إذا حاسبه وعاقبه.

---

2. المعنى الإجمالي للحديث:

يخبرنا هذا الحديث أن النبي داود عليه السلام كان يدعو بهذا الدعاء العظيم بعد فراغه من الصلاة، وهو دعاء جامع لخيري الدنيا والآخرة. ثم ينقل كعب الأحبار – وهو من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا وأخبارهم مقبولة إذا لم تخالف شرعنا – أن هذا الدعاء قد تلقّاه وتعبّد به نبينا محمد ﷺ، مما يرفع من شأنه ويدل على فضله وعظمته.
فالدعاء يبدأ بسؤال الله إصلاح الدين، وهو الأصل الذي به النجاة، ثم إصلاح الدنيا التي هي ميدان العمل للآخرة. ثم يستعيذ بالله من غضبه وعقابه، معترفًا بقدرة الله المطلقة وأنه لا رادّ لقضائه، ولا نافع إلا هو.

---

3. الدروس المستفادة منه:

1- فضل هذا الدعاء وعظمته: حيث ورد في شريعة سابقة (التوراة) وثبت أن نبينا ﷺ كان يقوله، مما يدل على أنه من جوامع الكلم التي أوتيها الأنبياء.
2- الاهتمام بإصلاح الدين أولاً: فبداية الدعاء تكون بإصلاح الدين لأنه "العصمة" الحقيقية للإنسان، وهو الأساس الذي تبنى عليه كل الأمور.
3- سؤال الله صلاح الدنيا: الدنيا ليست مذمومة على إطلاقها، بل هي مزرعة الآخرة، فيسأل المسلم ربه أن يصلح له دنياه لتكون معينًا له على طاعته، لا شاغلة عنه.
4- الاستعاذة بالله من غضبه وعقابه: وهذا من كمال العبودية، حيث يلجأ العبد إلى ربه طالبًا حمايته من أعظم المخاوف، وهو سخط الله تعالى.
5- التوحيد الخالص والاعتراف بالقدرة الإلهية المطلقة: بقوله "لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت" إقرار بأن الأمر كله بيد الله، لا يُعطى العبد إلا ما كتب له، ولا يُمنع إلا ما قُدّر عليه.
6- عدم اغترار الإنسان بماله أو جاهه: فمهما بلغ من الجد (الحظ والغنى والقوة) فإنه لا يغني عنه من الله شيئًا إذا أراد الله به سوءًا. النجاة تكون بالإيمان والتقوى، لا بالمال والمنصب.
7- استحباب الإكثار من هذا الدعاء بعد الصلاة: اقتداءً بنبينا محمد ﷺ، فمواقيت إجابة الدعاء متعددة، ومنها بعد الصلوات المفروضة.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

- هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع.
- يدل الحديث على صحة أخبار أهل الكتاب (الإسرائيليات) إذا لم تخالف شرعنا، ويجوز روايتها للاعتبار لا للاعتقاد أو الاحتجاج، خاصة إذا صدقها شرعنا كما في هذا الموقف، حيث أخبر به كعب ثم جاءت الموافقة بأن النبي ﷺ كان يقوله.
- قوله "أعوذ بك منك" من أعظم أنواع الذكر، وقد ورد في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي ﷺ كان يقول: "لا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك أرسل الرسل