إخراج اليهود من خيبر بعد فتحها

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، وأسأل الله أن ينفعنا بما ندرس ونفهم من سنة نبيه ﷺ.
الحديث الذي ذكر رواه الإمام البخاري في صحيحه، وهو حديث عظيم له دلالات مهمة في سياسة الدولة الإسلامية وعلاقتها بأهل الذمة. سأشرحه لك جزءًا جزءًا بإذن الله.

---

أولاً. شرح المفردات:

* أجلى: طرد وأخرج من البلد.
* أرض الحجاز: المنطقة التي تضم مكة والمدينة وما حولهما، وهي قلب الدولة الإسلامية.
* ظهر على خيبر: انتصر عليها وفتحها.
* يكفوا عملها: يتولوا هم عمل الأرض وزراعتها بجهودهم وأموالهم.
* نقركم بها: نترككم تقيمون فيها.
* تيماء وأريحاء: مناطق خارج الحجاز، وهي من أرض الشام.

---

ثانياً. شرح الحديث بإيجاز:

يخبرنا الصحابي الجليل عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي قام بتنفيذ سياسة كانت قد بدأت في عهد النبي ﷺ، وهي إخلاء أرض الحجاز - وخاصة منطقة المدينة المنورة وما حولها - من اليهود والنصارى.
ثم يعود بنا الحديث إلى الأصل، وهو ما حدث عند فتح خيبر (وهي أرض كبيرة ذات بساتين ونخيل، كانت تسكنها قبائل يهودية قوية وحاربت المسلمين). بعد انتصار المسلمين، صارت أرض خيبر ملكًا لله ورسوله وللمسلمين بحق الغنيمة.
أراد النبي ﷺ إخراج اليهود منها تمامًا، لكن اليهود - وهم خبراء في الزراعة - قدموا عرضًا للنبي ﷺ: أن يتركهم يعملون في الأرض ويقومون على زراعتها ورعايتها بأموالهم وجهدهم، مقابل أن يأخذوا نصف ثمرها، ويأخذ المسلمون النصف الآخر. فوافقهم النبي ﷺ على ذلك بشرط أن يبقوا فيها مدة يشاؤها النبي ﷺ (أي أن بقاءهم رهن بإرادة الرسول وإرادة الدولة الإسلامية من بعده).
وبقي اليهود في خيبر على هذا الحال (يعملون كشركاء بالمزارعة للمسلمين) طوال عهد النبي ﷺ وعهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ثم جاء عهد سيدنا عمر رضي الله عنه، فطبق الأمر النبوي الذي كان النبي ﷺ قد أراده من البداية (وهو إخراجهم)، فقام رضي الله عنه بإجلائهم إلى مناطق أخرى خارج الحجاز (تيماء وأريحاء) بشكل كريم وآمن، وقسم الأرض على المسلمين.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- سيادة الدولة الإسلامية وأمنها: يوضح الحديث حرص القيادة الإسلامية على تأمين قلب الدولة (الحجاز) من أي نفوذ أو قوة قد تشكل تهديدًا داخليًا، خاصة من مجموعات لها سجل عدائي مثل يهود خيبر الذين حاربوا المسلمين. وهذا من فقه السياسة الشرعية وحماية البيضة.
2- المرونة في التطبيق والرحمة: رغم أن القرار الأساسي كان إخراجهم، إلا أن النبي ﷺ قبل العرض الاقتصادي المؤقت الذي فيه منفعة للمسلمين (حيث لم يكن عندهم الخبرة الكافية في زراعة تلك الأرض في ذلك الوقت)، وأعطاهم فرصة للعمل بكرامة. وهذا يجمع بين حكمة الحاكم ورحمته.
3- الوفاء بالعهود: التزم الخلفاء الراشدون بالعهد الذي قطعه النبي ﷺ لليهود، فلم يخرجهم أبو بكر رضي الله عنه، بل انتظروا حتى انقضاء المصلحة من بقائهم. وعندما أجلاهم عمر، دفع لهم نصيبهم من الأرض والثمار وفقًا للاتفاق، مما يدل على العدل والوفاء.
4- تملك الأرض بالفتح: الحديث أصل في أن الأرض التي تفتح عنوة (أي بقوة القتال) تصبح ملكًا للمسلمين، وللإمام أن يتصرف فيها بما يراه محققًا للمصلحة، سواء بقسمتها على المجاهدين أو إبقائها تحت إدارة الدولة كما حدث في خيبر.
5- جواز المشاركة في الزراعة (المزارعة): الحديث من أدلة جواز عقد المزارعة، حيث يكون العمل من طرف (اليهود) ورأس المال (الأرض) من طرف آخر (المسلمين)، ويتقاسمان الناتج. وهذا من أبواب المعاملات المشروعة.
6- حكمة عمر رضي الله عنه: في تنفيذه لقرار الإجلاء، نرى حكمة عمر حيث انتظر الوقت المناسب الذي قويت فيه الدولة الإسلامية ولم تعد بحاجة إلى خبرتهم، ثم نفذ القرار الأساسي لحماية دار الإسلام.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

* هذا الإجلاء كان لليهود الذين نقضوا العهود وحاربوا المسلمين، وليس هذا الحكم عامًا لجميع أهل الذمة في كل البلدان. فأهل الذمة في البلاد الأخرى كانوا يعيشون بأمان تحت حكم المسلمين.
* الإجلاء تم بشكل منظم وآمن، ولم يكن طردًا عشوائيًا، حيث تم تعويضهم ونقلهم إلى مناطق أخرى يمكنهم العيش فيها.
* هذا الحديث يرد على من يتهم الإسلام بعدم التسامح، فهو يدل على التسامح المؤقت حين تكون المصلحة فيه، والحزم حين تكون المصلحة في الحزم، كل ذلك في إطار من العدل والوفاء بالعهود.
أسأل الله أن يوفقنا لفهم سنة نبيه ﷺ والعمل بها.
والله أعلم.