الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، و نسأل الله تعالى أن يرزقنا و إياكم العلم النافع والعمل الصالح، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علما وفقها في الدين واجعلنا هداة مهتدين.
الحديث الذي طلبت شرحه هو حديث عظيم من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، والذي رواه الإمام مسلم في صحيحه وغيره. وإليك الشرح الوافي له على النحو المطلوب:

---

1. شرح المفردات:

● ليس الكذاب: أي لا يُعدُّ كاذبًا ولا يأثم، ولا ينطبق عليه الوعيد الشديد الوارد في الكذب.
● يُصلح بين الناس: يسعى لجمع القلوب المتنافرة، وتذليل الخلافات بين المتخاصمين أو المتقاطعين.
● يُنمي خيرًا: يروي وينقل كلامًا طيبًا يحمل معاني الخير والصلاح، حتى لو لم يكن صحيحًا بالضبط، بشرط أن يقصد به الإصلاح.
● يرخص: يجيز ويبيح.
● فيما يقول الناس كذبًا: في أنواع الكلام التي يعدها الناس في الظاهر كذبًا.

---

2. شرح الحديث:

بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن هناك مواضع يُستثنى فيها الكلام الذي يبدو في ظاهره كذبًا من حكم الكذب المحرم، ولا يُسمَّى فاعله كذابًا، بل يكون مأجورًا على فعله لمقصد صحيح شرعي.
والحديث أصل في باب "المصلحة المرسلة" و"درء المفاسد وجلب المصالح". فالشريعة الإسلامية جاءت لحفظ الضرورات الخمس (الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال)، والإصلاح بين الناس من أعظم ما يحقق هذه المقاصد.
والزيادة التي أوردها الإمام مسلم عن الإمام الزهري (وهو من أئمة التابعين وجهابذة علم الحديث) توضح وتفصّل ما أجمله نص الحديث، حيث حصر الرخصة في ثلاثة أمور:
1- في الحرب: وهو ما يُعرف بـ"خداع الحروب" أو "الحرب خدعة". فيجوز للقائد المسلم أن يُخبر العدو بأمور غير صحيحة لتحقيق النصر وتقوية جانب المسلمين، كأن يبالغ في عدد الجيش أو يتوعد بشيء لا يقصد تنفيذه، كل ذلك من أجل تحقيق المصلحة العليا للمسلمين.
2- الإصلاح بين الناس: وهو موضوع حديثنا. فيجوز للوسيط الذي يريد الإصلاح بين متخاصمين أن يقول لكل طرف على انفراد: "إن الطرف الآخر يثني عليك ويحبك ويتمنى الصلاح" ونحو ذلك، حتى ولو لم يقل الطرف الآخر ذلك بالضبط، ولكن المقصود هو زرع المحبة وإذابة الجليد بينهما.
3- حديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها: ويقصد به المداعبة والمزاح بين الزوجين بما يوطد العلاقة ويقوي المودة، كأن يعدها بشيء على سبيل المداعبة أو المزاح، أو تمدحه بصفات على سبيل إدخال السرور عليه، مما يجعل الحياة الزوجية أكثر بهجة واستقرارًا.

---

3. الدروس المستفادة منه:

● مرونة الشريعة الإسلامية: فالشريعة ليست نصوصًا جامدة، بل تراعي المقاصد والمصالح، وتُقدم تحقيق المصلحة العامة على بعض الظواهر النصية.
● عظم شأن الإصلاح بين الناس: حتى أن الشرع أباح ما هو محرم في الأصل (الكذب) من أجل تحقيقه، مما يدل على مكانته.
● أن النية تغير حكم العمل: فالكلام نفسه قد يكون كذبًا محرمًا إذا قصد به الإضرار أو الخداع، ويكون مباحًا بل ومطلوبًا إذا قصد به الإصلاح وجلب الخير.
● الحكمة في التعامل: على الداعية والمصلح أن يكون حكيمًا في كلامه، فيختار العبارات التي تؤدي إلى تقريب القلوب وليس تفريقها.
● ضوابط مهمة: هذه الرخصة ليست مطلقة، بل مقيدة بشروط:
- أن يكون القصد هو الخير والإصلاح فقط.
- ألا يؤدي هذا الكلام إلى ضياع حق أو إبطال حق ثابت.
- ألا يكون هناك طريق للصلاح بالكلام الصادق، فيُلتزم الصدق أولاً، فإن لم يُجْدِ، جاز استخدام هذه الطريقة.
- ألا يتضمن الكلام إقرارًا على إنسان بباطل أو نسبة معصية إليه.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

- هذا الحديث من الأدلة على الفرق بين "الكذب" المذموم شرعًا، وبين "التورية" و"المداراة" المحمودين، حيث يكون المعنى الذي يقصده المتكلم صحيحًا في نفسه، لكنه يُعبّر عنه بعبارة تحتمل أكثر من معنى.
- يستدل العلماء بهذا الحديث على مشروعية ما يُسمى في علم أصول الفقه بـ "تقديم أعلى المصلحتين على أدناهما، ودفع أعلى المفسدتين بأدناهما". فمفسدة الكذب الصغيرة تُدفع لتحقيق مصلحة الإصلاح الكبيرة.
- ينبغي للمسلم أن يتقي الله في استخدام هذه الرخصة، ولا يتساهل فيها، وأن يجعلها فقط في مواضعها الشرعية المحصورة، لئلا يتسع الخرق على الراقع، فيعتاد الكذب ثم يستمرئه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.