إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا الحديث العظيم الذي رواه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى، وهو من الأحاديث القدسية التي تبلغ منزلة رفيعة في بيان صلة العبد بربه، ويحتوي على كنوز من المعاني والتوجيهات الإلهية. سأشرحه لكم جزءًا جزءًا بإذن الله:

---

1. شرح المفردات:

● الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، ويشمل الظلم للنفس أو للغير.
● ضال: بعيد عن الهداية والحق.
● استهدوني: اطلبوا مني الهداية.
● جائع: محتاج إلى الطعام.
● عار: بدون لباس يستر الجسد.
● تخطئون: ترتكبون الذنوب والآثام.
● ضري: إلحاق الضرر بي.
● نفعي: إيصال النفع لي.
● أتقى قلب: أكثر القلوب تقوى وإيمانًا.
● أفجر قلب: أكثر القلوب فجورًا ومعصية.
● صعيد واحد: مكان واحد أو أرض واحدة.
● المخيط: الإبرة.
● أحصيها: أضبطها وأسجلها.
● أوفيكم إياها: أجزيكم بها كاملة.

---

2. شرح الحديث:

يبدأ الحديث بتوجيه خطاب إلهي إلى العباد بـ "يا عبادي"، مما يدل على القرب والرحمة، ثم يذكر الله تعالى عدة أمور:
أولاً: تحريم الظلم:
"إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا"
- الله تعالى ينزه نفسه عن الظلم، وهو العدل المطلق، ويحرم الظلم على العباد فيما بينهم.
ثانيًا: الهداية والرزق:
"كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم"
- الهداية بيد الله وحده، فعلى العبد أن يطلب الهداية من الله.
"كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم"
- الرزق من الله، وهو الذي يطعم الجائع، فعليه أن يطلب الرزق من الله.
"كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم"
- الكسوة أيضًا من نعم الله، ويجب سؤاله تعالى لها.
ثالثًا: المغفرة:
"إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم"
- الإنسان خطاء، والله غفور رحيم، ويحث العباد على الاستغفار.
رابعًا: استقلال الله عن خلقه:
"إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني"
- الله غني عن العالمين، فلا يضره معصية العاصي، ولا تنفعه طاعة المطيع، ولكن الطاعة تنفع العبد نفسه.
خامسًا: عظمة ملك الله:
"لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا"
- تقوى الخلق كلهم لا تضيف إلى ملك الله شيئًا لأنه غني مطلق.
"ولو كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا"
- معصية الخلق كلهم لا تنقص من ملك الله شيئًا.
سادسًا: سعة عطاء الله:
"لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر"
- عطاء الله لا ينفد، ومثال ذلك أن الإبرة إذا غُمست في البحر ثم أخرجت، فإن ما يلتصق بها من الماء قليل جدًا لقاء إلى بحر زاخر.
سابعًا: الجزاء على الأعمال:
"إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه"
- الله يحصي الأعمال وسيجزي بها يوم القيامة، فالمؤمن يحمد الله على التوفيق، والعاصي يلوم نفسه لأنه هو الذي اختار المعصية.

---

3. الدروس المستفادة:

1- العدل الإلهي: الله منزه عن الظلم، ويأمر بالعدل بين العباد.
2- التوكل على الله: في الهداية والرزق والكسوة، يجب سؤال الله تعالى.
3- الاستغفار: باب مفتوح للمغفرة مهما كثرت الذنوب.
4- استقلال الله: لا يحتاج إلى أحد، فطاعة العباد لا تنفعه، ومعصيتهم لا تضره.
5- سعة رحمة الله وعطائه: لا ينفد عطاؤه مهما سأله الخلق.
6- المسؤولية الفردية: كل إنسان مسؤول عن عمله، وسيحاسب عليه.

---

4. معلومات إضافية:

- هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو من الأحاديث القدسية المشهورة.
- قول أبي إدريس الخولاني (وهو تابعي جليل) إنه كان إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه، يدل على عظم قدر هذا الحديث وتأثيره في القلوب، وخشية الله تعالى.
- الحديث يربي في المؤمن روح التوحيد الخالص، والافتقار إلى الله في كل شيء.

أسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يهدينا ويرزقنا ويغفر لنا، إنه سميع مجيب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.