لا وصية لوارث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر

شرح الحديث:

أولاً: تخريج الحديث ومصادره المعتمدة
هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم من أئمة الحديث. وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع.

---

ثانياً: شرح مفردات الحديث
● خطب على ناقته: أي ألقى خطبة وهو راكب على ناقته، مما يدل على جواز الخطبة على المركوب للحاجة.
● تحت جِرانِها: الجِرانُ (بكسر الجيم) هو عظم صدر الناقة أو البعير، أي كان الراوي واقفاً قريباً من صدر الناقة.
● تَقْصَعُ بجرَّتِها: القَصْع هو مضغ الطعام وطحنه بالأسنان. والجَرَّة (بفتح الجيم وتشديد الراء) هي الشفة السفلى للناقة، أي كانت الناقة تمضغ وتبحر بشفتها، وهو صوت يصدر من فمها عند المضغ.
● لُعابَها يسيل بين كتِفيّ: اللعاب هو الريق. أي كان ريقه صلى الله عليه وسلم يسقط على ظهر الراوي بين كتفيه، وهذا من بركاته صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة يتبركون بذلك.
● العاهر: هو الزاني، الذي يأتي الفاحشة.
● الحجر: هو الحِِرْمَان والمنع، أي الحرمان من النسب والانتساب.

---

ثالثاً: شرح معنى الحديث جملةً جملة
1- «إن الله أعطي كل ذي حق حقَّه»:
هذا أصل عظيم من أصول الشريعة الإسلامية، وهي إعطاء كل صاحب حق حقه دون بخس أو ظلم. يشمل ذلك حقوق الله تعالى على عباده (كالصلاة والزكاة)، وحقوق العباد بعضهم على بعض (كحق الوالدين، والزوجين، والجيران، والعمال، وغير ذلك). فهو قاعدة شاملة للعدل في كل المعاملات.
2- «ولا وصية لوارث»:
هذا حكم شرعي مهم يعني أنه لا يجوز للشخص أن يوصي بشيء من ماله لأحد من ورثته (كأبنائه أو زوجته أو والديه) بعد موته. لأن الله تعالى قد قدّر لكل وارث نصيبه المفروض في الميراث في كتابه العزيز. فالوصية للوارث تكون إضراراً بباقي الورثة وإخلالاً بنظام الميراث العادل الذي شرعه الله. أما الوصية لغير الوارث (كالفقراء أو الأقارب غير الوارثين أو الجمعيات الخيرية) فهي جائزة ومستحبة.
3- «والولد للفراش»:
هذه قاعدة أخرى عظيمة في أحكام النسب. معناها أن الولد يُنسب إلى صاحب الفراش (أي الزوج) الذي وُلد على فراشه من زوجته، ولو كان هناك شك في أن الولد منه. وهذا لحماية الأنساب من الضياع وصيانة للأعراض. فمثلاً، إذا تزوجت امرأة وولدت ولداً بعد ستة أشهر من الزواج، فإن الولد يلحق بالزوج ولا يُنكر نسبه عنه، لأن العدة تبلغ ستة أشهر. وهذا من رحمة الإسلام وعدله.
4- «وللعاهر الحجر»:
هذه الجملة مقترنة بالتي قبلها. معناها أن الزاني (العاهر) محروم من نسب الولد، فلا ينتسب إليه ولا يُلحق به، حتى ولو كان هو أبوّه البيولوجي. فالجزاءُ من جنس العمل، فكما استخف بالحرمة وعصى الله، حُرم من شرف الانتساب. وهذا فيه زجرٌ شديد عن فعل هذه الفاحشة العظيمة، وحماية للمجتمع من اختلاط الأنساب.

---

رابعاً: الدروس المستفادة والعبر
1- العدل أساس الملك: التأكيد على مبدأ إعطاء كل ذي حق حقه هو عماد استقرار المجتمعات وانتظام أمورها.
2- حكمة التشريع الإلهي: في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصية للوارث حكمة عظيمة، وهي صيانة أموال الورثة من التلاعب، ومنع الظلم بينهم، والحفاظ على النظام المالي للأسرة.
3- صيانة الأنساب: قواعد (الولد للفراش) و(للعاهر الحجر) من أعظم ما شرع الإسلام لحماية الأسر من الانهيار، والحفاظ على نقاء الأنساب، وهو من مقاصد الشريعة الكبرى (حفظ النسل).
4- التيسير ورفع الحرج: خطبة النبي صلى الله عليه وسلم على ناقته تدل على جواز تخفيف بعض هيئات العبادات (كالخطبة) عند الحاجة، وعدم التشديد في الأمور الشكلية.
5- بركات النبي صلى الله عليه وسلم: سيلان لعاب الناقة على ظهر الراوي وهو يسمع كلام النبي دليل على تبرك الصحابة رضي الله عنهم بكل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك كان من محبتهم له وإيمانهم به.

---

خامساً: معلومات إضافية مفيدة
- هذا الحديث من "جوامع الكلم" التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم، حيث جمع في كلمات قليلة معاني كثيرة وأحكاماً عظيمة.
- القواعد الأربع المذكورة في الحديث (إعطاء الحقوق، منع وصية الوارث، إلحاق الولد بالفراش، حرمان الزاني من النسب) هي من القواعد الفقهية الكبرى التي تُبنى عليها العديد من الأحكام في أبواب المعاملات والمواريث والأحوال الشخصية.