اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب

شرح الحديث:

أولاً: تخريج الحديث ومصدره
هذا الحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه (رقم 711)، والإمام مسلم في صحيحه (رقم 598)، من رواية الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه. وهو حديث صحيح متفق عليه.

---

ثانياً: شرح المفردات
* يَسكُتُ: أي يسكت سكوتاً قصيراً، لا يصمت طويلاً.
* بين التكبير وبين القراءة: أي بعد أن يقول "الله أكبر" تكبيرة الإحرام وقبل أن يبدأ بقراءة سورة الفاتحة.
* إسكاتةً - هُنَيَّةً: كلمتان بمعنى واحد، أي سكوتاً قليلاً ووقتاً قصيراً جداً. (الهنية: الوقت القصير).
* بأبي وأمي: كلمة تعظيم وتحبب، يعني "افديك بأبي وأمي"، وهي من أعلى عبارات التكريم عند العرب.
* باعِدْ: أي أبعد واجعل المسافة بعيدة.
* نَقِّني: أي طهرني وأخلصني من كل أثر للذنب.
* الثوب الأبيض من الدَنَس: الدنس هو الوسخ والقذر. والمعنى: كما يُغسل الثوب الأبيض فيصبح نقيًا لا بقعة فيه.
* الْبَرَد: هو حبات الثلج الصلبة التي تتساقط من السماء.

---

ثالثاً: المعنى الإجمالي للحديث
يخبرنا أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ كان يفعل أمراً لطيفاً في صلاته، حيث كان يسكت سكوتاً قصيراً جداً بعد تكبيرة الإحرام وقبل أن يشرع في قراءة القرآن.
فلما لاحظ أبو هريرة هذا الأمر، واستفهم عنه بأدب جمٍّ وحبٍ لرسول الله، أخبره النبي ﷺ أنه في هذا الوقت القصير يدعو بهذا الدعاء العظيم، الذي هو استفتاح للصلاة وطلب للتطهير من الذنوب قبل الوقوف بين يدي الله تعالى.

---

رابعاً: الدروس المستفادة والفَوائد العقدية والعملية
1- استحباب هذا الدعاء في الصلاة: يُستحب للإمام والمنفرد أن يقول هذا الدعاء بعد تكبيرة الإحرام وقبل القراءة، وهو ما يسمى بـ "دعاء الاستفتاح". وهو من السنن المؤكدة في الصلاة.
2- أدب الصحابة وحبهم للعلم: حرص أبي هريرة رضي الله عنه على سؤال النبي ﷺ عن كل صغيرة وكبيرة في الدين، حتى الأمور الخفية في الصلاة، وهذا من حرصهم على اتباع السنة بدقة.
3- عظمة الدعاء وجزالة ألفاظه: يتجلى في هذا الدعاء بلاغة النبي ﷺ وفصاحته، حيث شبه طلب التباعد عن الذنوب بالتباعد بين المشرق والمغرب، وهي مسافة شاسعة لا تُدرك، ليعبر عن شدة الرغبة في بعد الذنوب. وشبه التطهير من الذنوب بتنقية الثوب الأبيض، الذي يظهر عليه أدنى وسخ، ليعبر عن شدة طلب النقاء.
4- التوبة والاستغفار قبل العبادة: من حكمة هذا الدعاء أنه تطهير للقلب وتخليص من ذنوب الماضي قبل الدخول في مناجاة الله تعالى في الصلاة، ليكون القلب أقرب إلى الخشوع والإخلاص.
5- التدرج في طلب المغفرة: لاحظت في الدعاء تدرجاً بديعاً:
* المرحلة الأولى (التباعد): "اللهم باعد بيني وبين خطاياي" طلب لإبعاد أثر الذنب عنه.
* المرحلة الثانية (التنقية): "اللهم نقني من الخطايا" طلب للتطهير الكامل من أدران الذنب.
* المرحلة الثالثة (الغسل والتطهير): "اللهم اغسل خطاياي" طلب للغسل بماء شديد النقاء وهو الماء والثلج والبَرَد، وهي أمطار شديدة البرودة والصفاء، ليدل على شدة النقاء والطهارة التي يريدها العبد من ربه.
6- التوسل إلى الله بصفاته: الدعاء يتوسل إلى الله تعالى بفعلين من أفعاله:
* كما باعدت بين المشرق والمغرب: فهو القادر على البعد والإبعاد.
* كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس: فهو القادر على التنقية والتطهير.

---

خامساً: حكم هذا الدعاء العملية
هذا الدعاء سنة وليس فرضاً، فمن تركه فصلاته صحيحة، ولكن فاته أجر كبير وثواب عظيم. وهو من سنن الصلاة القولية التي تقال مرة في الصلاة، بعد تكبيرة الإحرام.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.