إن أمر عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد،
حياكم الله و بياكم، وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا حديث عظيم من أحاديث حجة الوداع، يرويه الصحابي يحيى بن حصين عن جدته أم الحصين -رضي الله عنها- التي شهدت تلك الحجة العظيمة مع النبي صلى الله عليه وسلم.

---

أولاً. شرح المفردات:

● حجّة الوداع: هي الحجة التي حجها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من الهجرة، وكانت آخر حجة حجها، وودع فيها الناس.
● رمى جمرة العقبة: أي رمى النبي صلى الله عليه وسلم الجمرة الكبرى (جمرة العقبة) يوم النحر بسبع حصيات.
● انصرف: أي انطلق وذهب بعد انتهائه من الرمي.
● على راحلته: على ناقته.
● معه بلال وأسامة: بلال بن رباح مؤذن الرسول، وأسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
● رافع ثوبه: أي يظلل النبي صلى الله عليه وسلم بثوبه ليقي رأسه من حرارة الشمس.
● عبد مجدع: المجدع هو الذي قُطعت أطرافه (يده أو رجله) أو شُوّه خلقه. والمقصود هنا العبد الحقير الذليل في نظر الناس.
● أسود: أي من ذوي البشرة السوداء، وكان العرب في الجاهلية يحتقرون السود ويستعبدونهم.
● بكتاب الله: أي بحكم القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا بهواه.

---

ثانيًا. شرح الحديث:

تحدثت الصحابية الجليلة أم الحصين -رضي الله عنها- عن مشهد عظيم رأته بعينها في حجة الوداع، حيث رأت النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن رمى جمرة العقبة وانصرف على ناقته، وكان معه اثنان من خيرة أصحابه: بلال الحبشي وأسامة بن زيد، أحدهما يقود بناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر يظلله من شدة الحر بثوبه.
ثم سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في الناس خطبة طويلة (قولًا كثيرًا) فيها من الوصايا والتوجيهات، ثم تذكرت هذا المقطع العظيم من خطبته الذي أوصى فيه بالأمة، فقال: «إن أُمِّرَ عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا».
ومعنى هذا: إذا وُلِّيَ عليكم حاكم، حتى لو كان هذا الحاكم في أدنى الدرجات الاجتماعية حسب المفاهيم الجاهلية (عبدًا مملوكًا، مشوه الخلقة، أسود البشرة)، لكنه يحكم بينكم بشرع الله تعالى المنزل في كتابه وسنة نبيه، فواجبكم أن تسمعوا كلامه وتطيعوه في المعروف.

---

ثالثًا. الدروس المستفادة والعبر:

1- نفي العصبية الجاهلية: بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أساس التفاضل بين الناس هو التقوى والعمل الصالح واتباع شرع الله، وليس النسب أو اللون أو الجاه أو الحسب. فالعبد الأسود المتّبع للشرع أولى بالطاعة من السيد الشريف المخالف لله ورسوله.
2- وجوب طاعة ولي الأمر المسلم: الحديث أصل عظيم من أصول أهل السنة والجماعة في وجوب طاعة أولياء الأمور ما أطاعوا الله تعالى، ولو كان فيهم نقص من جهة الأصل أو اللون أو الجسد. فالطاعة تابعة لالتزامهم بالشرع، وليست تابعة لشخصهم.
3- العدل والإنصاف: الحكم لله تعالى، فلا ينبغي أن تؤثر العواطف أو الأحقاد أو التعصبات على قبول الحق والانقياد له، من أي شخص جاء، حتى لو كان من أعداء الأمس.
4- الرد على الخوارج: هذا الحديث حجة على الخوارج ومن على شاكلتهم الذين يكفرون الحكام ويخرجون عليهم لأدنى سبب، ويستنكرون أن يكون ولي الأمر من غير قريش أو من ذوي الألوان الأخرى. فالشرط الأساسي هو القيام بكتاب الله، فإذا تحقق وجبت الطاعة.
5- التواضع النبوي: في المشهد دليل على تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان يركب ناقته ويقودها أحد أصحابه، ويظله الآخر من الشمس، دون تكبر أو تعال.

---

رابعًا. معلومات إضافية:

- الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو من الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول.
- هذا المبدأ (الطاعة لولاة الأمور بالمعروف) من أسباب استقرار المجتمعات الإسلامية ووحدة كلمتها، ومنهج السلف الصالح هو السمع والطاعة لهم في المعروف، والنصيحة لهم بالتي هي أحسن، والصبر على أذاهم، وعدم الخروج عليهم بالسيف.
- المقصود بـ "يقودكم بكتاب الله" أي يحكم بينكم بالقرآن والسنة، فإذا حاد عن ذلك وخالف شرع الله، فلا سمع ولا طاعة له في معصية الله، ولكن لا يجوز الخروج عليه إلا بشروط شديدة جدًا عند أهل العلم.
أسأل الله أن يفقهنا في الدين، وأن يرزقنا العمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.