الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مائة شرط

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإليك شرح هذا الحديث النافع الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه وغيره:

---

الحديث بصيغة أوضح:

عن أيمن قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها، فقلت: كنت غلامًا لعتبة بن أبي لهب، ومات، وورثني بنوه، وإنهم باعوني من ابن أبي عمرو، فأعتقني ابن أبي عمرو، واشترط بنو عتبة الولاء. فقالت عائشة: دخلت عليَّ بريرة -وهي مكاتبة- فقالت: اشتريني وأعتقيني. فقلت: نعم. فقالت بريرة: لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي. فقلت: لا حاجة لي بذلك. فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغه، فذكر لعائشة، فذكرت عائشة ما قالت لها بريرة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اشتريها وأعتقيها، ودعيهم يشترطون ما شاؤوا». فاشترتها عائشة فأعتقتها، واشترط أهلها الولاء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الولاء لمن أعتق، وإن اشترطوا مائة شرط».

---

1. شرح المفردات:

● غلامًا: عبدًا أو خادمًا.
● عتبة بن أبي لهب: هو ابن أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من أشد المعادين للإسلام.
● ورثني بنوه: صرت ميراثًا لورثته بعد موته.
● ابن أبي عمرو: هو الذي اشترى أيمن ثم أعتقه.
● اشترطوا الولاء: طلبوا أن يكون ولاء العتق لهم بعد عتقه.
● بريرة: جارية كانت مملوكة، ثم صارت مكاتبة (أي تعاقدت على شراء حريتها بأقساط).
● مكاتبة: هي الأمة التي اتفقت مع سيدها على أن تدفع له مبلغًا معينًا مقابل حريتها.
● الولاء: هو رابطة خاصة بين المعتق والمعتَق، تترتب عليها حقوق مثل الميراث إذا لم يكن للمعتق وارث.
● دعيهم يشترطون ما شاؤوا: اتركيهم يشترطون ما يريدون من الشروط.

---

2. شرح الحديث:

يحكي هذا الحديث قصة اثنين من المستعبدين سابقًا هما أيمن وبريرة، وبيان حكم شرعي مهم يتعلق بالولاء بعد العتق.
أولاً: قصة أيمن
كان أيمن عبدًا عند عتبة بن أبي لهب، فلما مات عتبة، ورثه أبناؤه، ثم باعوه لابن أبي عمرو، الذي أعتقه (أي حرره). لكن بني عتبة اشترطوا عند البيع أن يكون ولاء أيمن لهم بعد عتقه، أي أن يصيروا هم أولى به في الحقوق الشرعية الناتجة عن العتق.
ثانيًا: قصة بريرة
كانت بريرة جارية مكاتبة (تعمل لتحصل على حريتها)، فطلبت من عائشة رضي الله عنها أن تشتريها وتعتقها. لكن أهل بريرة (أسيادها) اشترطوا أن يكون الولاء لهم إذا أعتقت. فرفضت عائشة في البداية لأنها لا تريد أن يكون الولاء لغيرها. فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، أمرها أن تشتريها وتعتقها regardless of their condition، قائلاً: «اشتريها وأعتقيها، ودعيهم يشترطون ما شاؤوا». ففعلت عائشة ذلك، وأعتقت بريرة، واشترط أهلها الولاء لأنفسهم. لكن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بعد ذلك بأن «الولاء لمن أعتق، وإن اشترطوا مائة شرط»، أي أن الولاء لا يكون إلا للمعتق (الذي دفع الثمن وأعتق) وليس لأولئك الذين اشترطوه، حتى لو اشترطوا ألف شرط.

---

3. الدروس المستفادة منه:

1- الولاء لا يثبت بالشرط المخالف للشرع: فلو اشترط السابقون أن الولاء لهم بعد العتق، فإن شرطهم باطل، لأن الولاء ثابت شرعًا للمعتق فقط.
2- الحكمة من تشريع الولاء: الولاء رابطة إنسانية واجتماعية، يجعل المعتَق جزءًا من أسرة المعتق، فيرثه إذا لم يكن له وارث، مما يشجع على العتق ويوفر الرعاية للمعتقين.
3- جواز التعامل مع الشروط الباطلة أحيانًا لمصلحة أعلى: هنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تقبل الشرط ظاهريًا لتحرير بريرة، مع علمه بأن الشرط باطل ولن ينفذ. وهذا من الحكمة الشرعية.
4- فضل عتق الرقاب: الحديث يحث على عتق الرقاب والإحسان إلى العبيد، وقد كانت عائشة رضي الله عنها مثالاً في ذلك.
5- أن الشروط التي تخالف أحكام الشرع لا قيمة لها: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن اشترطوا مائة شرط»، أي أن كثرة الشروط لا تغير من الحكم الشرعي الثابت.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

● الولاء في الإسلام: هو نوع من التبنّي المعنوي، حيث يصير المعتَق كالولد للمعتق في بعض الحقوق، خاصة الميراث عند انعدام الورثة الشرعيين.
● الفرق بين المكاتب والعبد: المكاتب له نوع من الحرية الجزئية، فهو يعمل ليدفع لسيده مبلغًا متفقًا عليه لينال حريته، بينما العبد مملوك بالكامل.
● هذا الحديث أصل في باب الشروط: وهو من الأدلة على أن الشروط التي تخالف الشرع باطلة، حتى لو وافق عليها الطرفان.
● بريرة كانت من الموالي المشهورات في الإسلام، وروت عدة أحاديث عن عائشة رضي الله عنها.

أسأل الله تعالى أن يفقهنا في الدين، وأن يجعلنا من المحبين ل