تزويج النجاشي أم حبيبة للنبي ﷺ بأربعة آلاف.

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا الحديث الذي أتيت به رواه الإمام أبو داود في سننه، وهو حديث صحيح، وفيه قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها، وهو من الأحاديث التي تحمل في طياتها دروساً عظيمة وعبراً متنوعة.

---

أولاً. شرح المفردات:

● أم حبيبة: هي رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب، من كبار الصحابيات، وأخت الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
● تحت عبيد الله بن جحش: أي كانت زوجة له. وعبيد الله هذا هو أخو زينب بنت جحش أم المؤمنين، وكان قد هاجر إلى الحبشة ثم ارتد هناك ومات على النصرانية.
● فزوجها النجاشي: النجاشي هو ملك الحبشة، وكان ملكاً عادلاً، ولم يكن مسلماً في ذلك الوقت على الأرجح، لكنه كان موحداً على ملة النبي إبراهيم عليه السلام.
● أمهرها عنه أربعة آلاف: أي جعل صداقها أربعة آلاف درهم.
● شرحبيل بن حسنة: هو صحابي جليل، كان عاملاً للنبى صلى الله عليه وسلم على بعض المناطق.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبرنا هذا الحديث القصة العظيمة لزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أم حبيبة رضي الله عنها، والتي تمت في ظروف بالغة الصعوبة والغربة. فقد هاجرت مع زوجها الأول عبيد الله بن جحش إلى الحبشة فراراً بدينها، ولكن زوجها ارتد هناك ومات على النصرانية، فوجدت نفسها وحيدة في أرض الغربة، بعيدة عن أهلها ووطنها.
فقام النجاشي الملك العادل – وهو غير مسلم آنذاك – بدور الولي لها، فخطبها للرسول صلى الله عليه وسلم وزوجها إياه، وأقام لها وليمة العرس، ودفع المهر من عنده نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أربعة آلاف درهم، ثم جهزها وأرسلها مع شرحبيل بن حسنة في رحلة آمنة إلى المدينة المنورة لتصبح أماً للمؤمنين.
ويلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرسل لها مهراً في الحبشة، لأن النجاشي قد تكفل بذلك، وعندما قدمت عليه في المدينة أكرمها وأعزها وأقر ذلك الصداق.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- مكانة المرأة وكرم الإسلام لها: قصة زواج أم حبيبة تظهر العناية الإلهية بالمرأة المسلمة وحفظ كرامتها حتى في أصعب الظروف، فلم تترك وحيدة ضائعة، بل هيأ الله لها من يتولى أمرها ويكرمها بأعلى الدرجات بأن تكون زوجة لخاتم الأنبياء.
2- عدل النجاشي وحسن خلقه: يشير الحديث إلى خلق النجاشي النبيل وعدله، رغم أنه لم يكن مسلماً بعد، فقد تعامل بمبادئ المروءة والعدل والإنسانية، فقام مقام الولي للمرأة الغريبة، وأكر مها وأعزها، وهذا من أسباب إسلامه لاحقاً.
3- جواز أن يزوج غير المسلم المرأة المسلمة إذا كان عدلاً: هذا من الفوائد الفقهية المهمة، حيث أجاز بعض العلماء تزويج غير المسلم إذا كان معدلاً في أحكامه، كالنجاشي، خاصة عند فقدان الولي المسلم.
4- مشروعية توكيل الغير في عقد النكاح: حيث وكّل النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي في عقد نكاحه على أم حبيبة، وقبلت هي بذلك.
5- تفاضل المهور حسب حال الزوج: كان مهر نساء النبي صلى الله عليه وسلم غالباً أربعمائة درهم، ولكن للنبي صلى الله عليه وسلم حال خاصة، وقد يكون ارتفاع مهر أم حبيبة من قبل النجاشي تكريماً لها ولمنزلتها، وإظهاراً للفرح بهذا الزواج المبارك.
6- فضل الهجرة في سبيل الله: قصة أم حبيبة هي قصة الهجرة والثبات على الدين، فقد ضحت بوطنها وأهلها في سبيل الحفاظ على دينها، فكافأها الله بأن صارت من أهل بيت النبوة.
7- التيسير في أمور النكاح وعدم المغالاة في المهور: رغم أن المهر هنا كان كبيراً، إلا أن الذي دفعه هو النجاشي من عنده تكريماً، أما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فكانت التيسير والتخفيف في المهور، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مُؤُونَةً» (رواه أحمد وصححه الألباني).

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- استشهد بعض العلماء بهذا الحديث على أن عقد النكاح يصح مع الكفار في دار الحرب إذا توفرت فيه شروط العدالة.
- توفيت أم حبيبة رضي الله عنها في سنة 44 هـ في خلافة أخيها معاوية بن أبي سفيان.
- هذا الزواج كان له أثر سياسي إيجابي، حيث كان سبباً في إسلام أبي سفيان والدها فيما بعد، وتخفيف عدائه للإسلام.
أسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يرزقنا الفقه في دينه، والله أعلم.