خرج رسول الله زمن الحديبية وقال: لقد سهل لكم من أمركم

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله خاتم النبيين وإمام المتقين.
أهلاً وسهلاً بك أيها السائل الكريم، وأسأل الله أن يفتح علينا من فضله ويرزقنا الفهم في دينه.
هذا الحديث العظيم الذي تسأل عنه هو جزء من حديث صلح الحديبية الطويل، وهو من الأحاديث التي تُعد من أعلام السيرة النبوية وأحداثها الفاصلة، وقد رواه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط.
وفيما يلي شرح وافٍ للحديث بحسب الطلب، معتمداً على كلام أهل العلم المعتبرين:

---

أولاً. شرح المفردات:

● المسور بن مخرمة، ومروان: صحابيان جليلان، رضي الله عنهما، وهما من رواة هذا الحديث.
● يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه: أي أن رواية كل منهما تؤكد وتتوافق مع رواية الآخر، مما يزيد الحديث قوة وثبوتاً.
● زمن الحديبية: أي في وقت حادثة صلح الحديبية، التي وقعت في السنة السادسة للهجرة.
● معمر: هو الإمام معمر بن راشد الأزدي، أحد الأئمة الثقات المكثرين من رواية الحديث.
● أيوب: هو أيوب السختياني، الإمام الثقة الحافظ.
● عكرمة: هو عكرمة مولى ابن عباس، ثقة فقيه مكثر.
● سهيل بن عمرو: هو زعيم من زعماء قريش، وأحد ممثليهم في مفاوضات صلح الحديبية.
● لقد سُهُلَ لكم من أمركم: هذه جملة فيها لعب باللفظ (جناس)، فاسم الرجل "سهيل" مشتق من السهولة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجملة التي تعني: "لقد تيسر وتسهل لكم أمركم بمجيء هذا الرجل".

---

ثانياً. شرح الحديث والسياق:

السياق التاريخي:
في السنة السادسة للهجرة، خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة قاصدين أداء العمرة، لا قاصدين قتالاً. فلما علمت قريش، خرجت لتمنعهم. وبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن قريشاً قد عزمت على القتال، فتحرك حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد (بئر) قليل الماء، فتمخضه الناس (أي استقوا ما فيه حتى نضب). فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فتوضأ ثم دعا بإناء فصب عليه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو، ثم صبه في البئر. ففار البئر بالماء حتى رَوُوا وتزوّدوا.
ثم بدأت المفاوضات بين المسلمين وقريش، وأرسلت قريش رُسلاً لها، كان آخرهم سهيل بن عمرو.
معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد سُهُلَ لكم من أمركم":
لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشاً أرسلت سهيل بن عمرو، عرف أنهم يريدون الصلح والمهادنة، وليسوا مصرين على الحرب والقتال. لأن سهيلاً كان معروفاً بحكمته وبلاغته وميله إلى الحلول السلمية أحياناً، بخلاف بعض السفهاء المتعصبين من قريش.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة التي تجمع بين ذكر اسم الرجل وبشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بأن مجيء هذا الرجل يعني أن الأمر سيسير نحو السهولة واليسر والصلح، وليس نحو الصعوبة والعنف والقتال. فهي بشرى من النبي صلى الله عليه وسلم بتيسير الأمر وإنهاء الأزمة سلمياً.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- حسن الظن بالله والتوكل عليه: كان الموقف صعباً، حيث كان المسلمون محاصرين بعطش وعدو متربص، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان واثقاً من نصر الله، وكان يبشر أصحابه بالخير حتى في أحلك الظروف.
2- فراسة النبي صلى الله عليه وسلم: فراسته الصادقة التي أوتيها، حيث فهم من مجيء هذا الرجل بالذات أن القوم يميلون إلى الصلح.
3- الحكمة والمرونة في التعامل مع الخصوم: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم صلباً في غير موضع الصلابة، بل كان يراعي الظروف ويختار أنسب الطرق لتحقيق المصالح العليا للإسلام والمسلمين، حتى لو بدا في الصلح تنازلات ظاهرية (كما حدث في بنود صلح الحديبية التي كانت في ظاهرها ضد المسلمين، ولكنها في حقيقتها أعظم نصر).
4- التأني وعدم الاستعجال: لم يستعجل النبي صلى الله عليه وسلم بالقتال مع قدرته عليه، بل انتظر حتى تأتي الأمور على طبق من ذهب بفضل الله ثم بحكمته صلى الله عليه وسلم.
5- تفاؤل النبي صلى الله عليه وسلم: وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه التفاؤل وربط الأحداث بالخير، حتى في الألفاظ والكلمات كما في قوله: (لقد سُهل لكم من أمركم).

---

رابعاً. معلومات إضافية مفيدة:

- صلح الحديبية كان منعطفاً تاريخياً ونصراً مبيناً، كما سماه الله تعالى في القرآن {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [سورة الفتح: 1].
- من بنود الصلح التي قبلها النبي صلى الله عليه وسلم: أن من أتى المسلمين من قريش مرتداً عن دينهم ردوه إليهم، ومن جاء قريشاً من المسلمين لا يردوه. وهذا البند الذي ظهر فيه التنازل كان سبباً في إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص رضي الله عنهما لاحقاً، لأنهما قالا: "أما إذا ردّ محمد أصحابه إلى قريش فلست بقريش، فلو خرجت