لا تأكل بشمالك ولا تمش في نعل واحدة

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإن الحديث الذي طلبت شرحه حديث عظيم، رواه الإمام مسلم في صحيحه، وفيه ينهى النبي ﷺ عن أربع عادات كانت شائعة في الجاهلية، ويأمر بمخالفتها، وذلك من أجل تحقيق الهوية الإسلامية المميزة، واتباع آداب الإسلام الرفيعة.
وفيما يلي شرح وافٍ للحديث، أقدمه لك على النحو التالي:

---

أولاً. شرح المفردات:

● يأكل بشماله: أي أن يستخدم يده اليسرى في تناول الطعام.
● يمشي في نعل واحدة: أي أن يلبس حذاءً (نعلًا) في رجل واحدة فقط، ويترك الأخرى حافية.
● يشتمل الصماء: الاشتمال هو الالتفاف بالثوب. و"الصماء" هي الاشتمال بطريقة خاطئة، حيث يجلل الرجل جسده بثوب واحد لا يترك فيه فتحة لليدين، فيلفه على جسده كله، فيشبه الكفن، وقد لا يستطيع إخراج يديه للعمل أو الدفاع عن نفسه.
● يحتبي في ثوب واحد كاشفًا عن فرجه: الاحتباء هو أن يجلس على أليتيه ويرفع فخذيه وساقيه إلى بطنه، ويشدهما بيديه أو بثوب يلفه عليهما. والنهي هنا عن أن يفعل ذلك وهو لا يلبس تحته سوى ثوب واحد، مما قد يؤدي إلى انكشاف عورته.

---

ثانيًا. شرح الحديث:

ينهى النبي ﷺ في هذا الحديث عن أربعة أمور، كلها تتعلق بالهيئة واللباس والجلوس، وهي من الأمور التي قد يستهين بها الناس ولكنها تحمل معاني أدبية واجتماعية وصحية عميقة:
1- النَّهْيُ عَنِ الأَكْلِ بِالشِّمَالِ:
- هذا النهي من أجل مخالفة أهل الكفر والشرك، وكانت عادة مجوس فارس، وكذلك من أجل مخالفة الشيطان الذي يأكل بشماله.
- وفيه أيضًا تأديب للنفس، وتعويد على التميز في السلوك، واستخدام اليد اليمنى في كل ما هو من باب الكرامة والخير، لأن اليمين هي للأشياء الطيبة.
- كما أن فيه حكمة صحية، إذ أن اليد اليسرى تستعمل غالبًا لإزالة الأذى والنجاسات، فاستعمالها في الأكل قد يكون سببًا في نقل الأمراض.
2- النَّهْيُ عَنِ المَشْيِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ:
- هذا النهي يحمل معنيين:
● المعنى الأدبي والاجتماعي: أن في ذلك تشبهًا بالشيطان، كما ورد في بعض الأحاديث، وفيه أيضًا مخالفة للهيئة الحسنة والمتزنة، إذ أن المشي بنعل واحدة هيئة غير لائقة، تشوه منظر الإنسان، وتجعله مضحكًا في نظر الناس، وكأنه لم يكمل لباسه.
● المعنى الصحي: أن المشي بنعل واحدة يسبب اعوجاجًا في القامة أو المشية، أو يسبب آلامًا في الظهر والقدمين بسبب عدم توازن الجسم.
3- النَّهْيُ عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ:
- ورد النهي عن هذه الهيئة لأنها هيئة أهل الجاهلية، وكانوا يتكبرون بها.
- وهي هيئة غير عملية، تمنع الشخص من العمل والحركة بحرية، وقد تسبب له الاختناق، أو السقوط إذا احتاج إلى التحرك بسرعة.
- كما أنها تشبه هيئة الكفن، وهو أمر يكرهه الشرع.
- وفيه أيضًا ستر للرأس والوجه بشكل كامل، مما قد يؤدي إلى عدم معرفة الأشخاص لبعضهم، أو إثارة الريبة.
4- النَّهْيُ عَنِ احْتِبَاءٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ كَاشِفًا عَنْ فَرْجِهِ:
- هذا النهي من أعظم الآداب في ستر العورة.
- فجلسة الاحتباء قد تؤدي إلى انكشاف العورة إذا لم يكن اللباس مناسبًا أو إذا كان ثوبًا واحدًا لا سروال تحته.
- والشرع الحكيم حرص على ستر العورة غاية الحرص، وجعل ذلك من كمال المروءة والحياء، والحياء شعبة من شعب الإيمان.

---

ثالثًا. الدروس المستفادة من الحديث:

1- مشروعية المخالفة لأهل الكفر والجاهلية: في النهي عن هذه الأمور تأكيد على مبدأ المخالفة لأعداء الله وعادات الجاهلية، حتى في الأمور الصغيرة، لتحقيق الشخصية الإسلامية المستقلة.
2- الاهتمام بالهيئة والمنظر: الإسلام دين الجمال والنظام، ينهى عن كل ما يشوه صورة المسلم أو يجعله مثار سخرية.
3- الحرص على الآداب العامة: الحديث يدل على أن الإسلام يهتم بآداب الطعام واللباس والمشي والجلوس، ليرتقي بالإنسان في جميع شؤونه.
4- سعة رحمة الإسلام: هذه النواهي كلها من أجل مصلحة الإنسان، سواء كانت دينية أو صحية أو اجتماعية.
5- الحياء والستر: النهي عن انكشاف العورة يدل على مكانة الحياء في الإسلام، وأنه يجب على المسلم أن يتعاهد نفسه دائمًا ليكون في مظهر لائق وساتر لعورته.

---

رابعًا. معلومات إضافية:

- هذه النواهي ليست للتحريم المطلق في جميع الصور عند كثير من العلماء، بل بعضها للكراهة التنزيهية، خاصة إذا وجدت حاجة أو ضرورة.
- مثلاً: الأكل بالشمال لعذر (كأن تكون اليمنى مجروحة) جائز.
- والمشي في نعل واحدة لحاجة (كأن تكون واحدة فقط متوفرة وقت