لولا أني سمعت رسول الله يقول لا يتمنى أحدكم الموت لتمنيت

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإليك شرح هذا الحديث النبوي الشريف الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه، معتمدًا على كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.

---

نص الحديث:

عن حارثة بن مضرب قال: دخلت على خباب، وقد اكتوي سبعًا فقال: لولا أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا يتمنى أحدكم الموت» لتمنيت، ولقد رأيتني مع رسول الله ﷺ ما أملك، وإن في جانب بيتي الآن لأربعين ألف درهم. قال: ثم أتي بكفنه، فلما رأه بكى وقال: لكن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء، إذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه، حتى مدت على رأسه، وجعل على قدميه الإذخر.

---

1. شرح المفردات:

● حارثة بن مضرب: تابعي جليل، من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
● خباب بن الأرت: صحابي جليل، من السابقين إلى الإسلام، عُذِّب في سبيل الله تعذيبًا شديدًا.
● اكتوي سبعًا: أي كُوِي جسده في سبعة مواضع بالنار؛ علاجًا لمرض ألمَّ به.
● لولا أني سمعت...: أسلوب حصر، يعني "لولا النهي عن تمني الموت لتمنيته".
● بردة ملحاءُ: البردة: كساء من الصوف. الملحاء: التي فيها خطوط بيض وسود.
● قلصت: انكشفت وارتفعت، أي لم تستر العضو.
● الإذخر: نبات طيب الرائحة.

---

2. شرح الحديث:

يُخبر التابعي حارثة بن مضرب أنه زار الصحابي الجليل خباب بن الأرت -رضي الله عنه- في مرض موته، وقد عولج بالكي في سبعة مواضع من جسده، مما سبب له ألمًا شديدًا.
فقال خباب: "لولا أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا يتمنى أحدكم الموت» لتمنيتُ".
فهذا القول منه يدل على شدة الألم الذي كان يعانيه، حتى كاد يتمنى الموت ليستريح منه، لكنه امتثالاً لأمر النبي ﷺ الذي ينهى عن تمني الموت، امتنع عن هذه الأمنية.
ثم استذكر خباب -رضي الله عنه- أيام الفقر والشدة التي عاشها مع رسول الله ﷺ في مكة، حيث لم يكن يملك شيئًا من الدنيا، وقال: "ولقد رأيتني مع رسول الله ﷺ ما أملك"، أي لم يكن لديه مال ولا متاع.
وبالمقارنة، أشار إلى ما آتاه الله من نعمة الدنيا في آخر عمره فقال: "وإن في جانب بيتي الآن لأربعين ألف درهم". وهذا المبلغ كان كبيرًا جدًا في ذلك الوقت.
ثم جاءوه بكفن حسن (أي غالي الثمن وجميل) ليكفن فيه بعد موته، فلما رآه بكى. وبكاؤه هنا ليس حزنًا على فراق الدنيا، بل كان بكاءً لله وفي الله.
فبكى لأنه تذكر شهداء الصحابة الأوائل، وتحديدًا عم النبي ﷺ حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- سيد الشهداء، الذي استشهد في غزوة أحد ولم يوجد له كفن يسعه إلا بردة (كساء) فيها خطوط بيض وسود.
وكانت هذه البردة صغيرة، فإذا غطوا بها رأسه انكشفت قدماه، وإذا غطوا بها قدميه انكشفت رأسه. فاضطروا إلى أن يغطوا رأسه بها ويضعوا على قدميه نبات الإذخر (وهو نبات عطري) ليستروا عورته ويحفظوا جسده الشريف.

---

3. الدروس المستفادة والعبر:

1- الصبر على البلاء: يتجلى في قصة خباب -رضي الله عنه- أعلى درجات الصبر على الألم والمرض، مع الشكر لله على نعمه.
2- النهي عن تمني الموت: النهي النبوي عن تمني الموت يدل على أن في الحياة خيرًا كثيرًا للمؤمن، من طاعة وعمل صالح واستغفار، وأن الموت يأتي بغتة فلا ينبغي الاستعجال له.
3- زهد الصحابة وعدم التعلق بالدنيا: على الرغم من أن خبابًا -رضي الله عنه- أصبح لديه مال كثير (أربعون ألف درهم)، إلا أنه لم يفرح بهذا المال، بل بكى عندما تذكر أيام الشدة والإيمان مع رسول الله ﷺ.
4- التذكر والاعتبار بحال السابقين: بكاء خباب عند رؤية كفنه لأنه تذكر حال حمزة والصحابة الشهداء الذين لم يجدوا ما يكفنون به، هو درس في أن قيمة الإنسان بإيمانه وتقواه، وليس بماله أو كفنه.
5- تفضيل حياة الشدة مع الإيمان على حياة الراحة مع الغفلة: حياة الفقر مع رسول الله ﷺ كانت أحب إلى خباب من الغنى والمال الكثير في آخر عمره.
6- حقارة الدنيا وزوالها: القصة كلها تذكر بحقارة الدنيا وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأن الآخرة هي دار القرار.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

● خباب بن الأرت: من الموالي (أي كان عبدًا فأعتق)، أسلم مبكرًا وتحمل التعذيب الشديد في سبيل الله، وكان من أفقه الصحابة.
● النهي عن تمني الموت: ورد النهي عنه في أحاديث أخرى، إلا أن هناك استثناءً وهو أن يتمناه خوفًا من الفتنة في الدين، كما في دعاء النبي ﷺ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَع