شُمي عوارضها وانظري إلى عُرقوبيها

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا الحديث الشريف رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجه في سننه، وغيرهم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.

---

أولاً. شرح المفردات:

● أم سليم: هي الصحابية الجليلة، والدة أنس بن مالك رضي الله عنهما، خادم رسول الله ﷺ، وهي من السابقات إلى الإسلام.
● جارية: هنا المقصود بها المرأة التي يراد خطبتها والزواج بها.
● شُمي عوارضها: "شمي" من الشم، أي استنشقي رائحة فمها. و"العوارض" هي الأسنان، وتحديداً الأضراس أو الأسنان الخلفية، وقيل: ما بين الأذن والعنق.
● عُرقوبيها: العرقوب هو الوتر الذي في مؤخرة القدم، فوق الكعب، وهو موضع اتصال الساق بالقدم.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبرنا أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ أراد أن يخطب امرأة (أو أن أحد الصحابة أراد ذلك فاستشار النبي)، فأرسل أم سليم – وهي امرأة ثقة، يمكنها رؤية المرأة – لتتفحص تلك الجارية (المرأة المراد خطبتها) وتنظر في بعض صفاتها الخَلقية التي قد تخفى على الرجل الأجنبي، لأن الشرع يحرم نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية.
فأمرها النبي ﷺ بأمرين:
1- «شُمي عوارضها»: أي استنشقي رائحة فمها من خلال منطقة العوارض (جانبي الفم). وهذا ليس مقصوداً لذاته، بل هو وسيلة للتعرف على رائحة الفم. فقد تكون رائحة فمها كريهة بسبب مرض في الأسنان أو اللثة أو المعدة، وهو ما قد يكون عيباً خفياً يسبب نفرة الزوج منها بعد الزواج.
2- «وانظري إلى عُرقوبيها»: أي انظري إلى رجليها عند منطقة العرقوب. والغرض من ذلك هو التعرف على جمال قديمها واستقامة قوامها. فمن خلال النظر إلى هذه المنطقة يمكن الحكم على نعومة جسمها ورشاقتها، وأنها ليست خشنة أو غليظة بشكل مفرط، كما أن استقامة العرقوب تدل على اعتدال في الخلقة.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والفقه في الحديث:

1- مشروعية النظر إلى المخطوبة: يُستفاد من الحديث جواز نظر الرجل إلى المرأة التي يريد خطبتها، بل استحباب ذلك، ليعرف محاسنها ومعايبها. ولكن نظر الرجل لها له ضوابط، فلا يجوز الخلوة بها، ولا يجوز أن يراها في حالة تبرج، والنظر يكون إلى ما يظهر غالباً كالوجه والكفين، أو إلى مواضع يريد التأكد من خلوها من العيوب كما في هذا الحديث، ولكن عبر وسيط ثقة مثل محرمها أو امرأة ثقة (كأم سليم هنا).
2- الحكمة من إرسال امرأة للنظر: دلّ فعل النبي ﷺ على أن إرسال امرأة ثقة للنظر إلى المخطوبة والتأكد من بعض صفاتها الخَلقية أمر مشروع ومستحب، خاصة للصفات التي لا يمكن للرجل رؤيتها مباشرة بكل سهولة وبدون حرج.
3- الاهتمام بالصحة والجمال في الزواج: الشرع الحكيم يحث على اختيار الزوجة على أساس الدين أولاً، كما في الحديث: «تُنكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ». ولكن هذا لا يعني إهمال الجمال والصحة، بل الجمع بينهما هو المطلوب. والحديث هنا يرشد إلى وسيلة للتعرف على جانب من الجمال والصحة.
4- الكشف عن العيوب الخفية: من حكمة الشريعة أنها أباحت مثل هذا الفحص للكشف عن العيوب الخفية التي قد لا تظهر إلا بعد العيش معاً، مما يحقق الرضا بين الزوجين ويقلل من احتمالية النزاع.
5- الذوق الرفيع والنصح في الإسلام: يظهر من توجيهات النبي ﷺ ذوقه الرفيع وحكمته في التعامل مع الأمور، وحرصه على إقامة بيوت زوجية على أساس من المعرفة والوضوح، مما يؤدي إلى الاستقرار والمودة.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

- هذا الحديث يدخل في باب "النظر إلى المخطوبة" في كتب الفقه.
- أجمع العلماء على استحباب النظر إلى المخطوبة، وذهب الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) إلى جواز النظر إلى الوجه والكفين، واستدلوا بهذا الحديث على جواز النظر إلى أكثر من ذلك إذا دعت الحاجة، كالنظر إلى القدم أو الشعر للتأكد من خلوهما من العيوب، ولكن بشروط الستر وعدم الخلوة ووجود المحرم أو المرأة الثقة.
- الفحص الطبي قبل الزواج في عصرنا هو امتداد لهذا المعنى النبوي الكريم، فهو وسيلة للكشف عن الأمراض الوراثية أو المعدية التي قد تؤثر على استقرار الحياة الزوجية.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.