ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلا وهي كائنة

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فأقدم لكم شرحًا وافيًا لهذا الحديث النبوي الشريف، معتمدًا على كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.
الحديث:
عن ابن محيريز، أنه قال: دخلت المسجد، فرأيت أبا سعيد الخدري، فجلست إليه، فسألته عن العزل؟ فقال: خرجنا مع رسول اللَّه ﷺ في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيا من سبي العرب، فاشتهينا النساء، واشتد علينا العُزْبة، وأحينا الفداء، فأردنا أن نعزل، فقلنا: نعزل ورسول اللَّه ﷺ بين أظهرنا قبل أن نسأله، فسألناه عن ذلك، فقال: «ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة».

---

1. شرح المفردات:

● ابن محيريز: هو جميل بن عبد الله بن محيريز، تابعي جليل، من أهل الشام.
● أبو سعيد الخدري: هو الصحابي الجليل سعد بن مالك بن سنان، من كبار صحابة رسول الله ﷺ.
● العزل: هو أن يجامع الرجل امرأته أو جاريته، ثم يعزل وينزع قبل أن يُنزل، أي يمنع نزول المني في الفرج بقصد منع الحمل.
● بني المصطلق: هي غزوة من غزوات النبي ﷺ، وتسمى أيضًا غزوة المريسيع.
● السبي: الأسرى الذين يؤخذون في الحرب، والمراد هنا النساء.
● اشتهينا النساء: رغبنا في الجماع بهن.
● العزبة: العزوبة والانفراد عن النساء، أي اشتدت علينا مشقة البعد عن النساء.
● أحينا الفداء: رغبنا في فداء الأسرى لأخذ المال مقابلهم.
● ما عليكم أن لا تفعلوا: أي لا حرج عليكم في ترك العزل وعدم فعله.
● نسمة: هي النفس أو الإنسان المخلوق.

---

2. شرح الحديث:

يخبر الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن واقعة حدثت معهم في غزوة بني المصطلق، حيث أُسر منهم نساء، فاحتاج الصحابة إلى الجماع لشدة رغبتهم بعد طول عزوبة، وفي نفس الوقت رغبوا في فداء those الأسرى لأخذ المال. ففكروا في ممارسة "العزل" مع الإماء (السبايا) لتجنب حملهن، مما قد يقلل من قيمتهن عند بيعهن أو فدائهن، أو يلزمهم بالنفقة عليهن.
كانوا على وشك فعل ذلك دون سؤال النبي ﷺ، ثم تراجعوا واستحوا أن يفعلوا ذلك وهو بين أظهرهم دون أن يستفتوه في حكمه. فلما سألوه ﷺ، أجابهم بأنه "لا حرج عليكم في ألا تفعلوا"، أي لا بأس بترك العزل وعدم ممارسته. ثم بين لهم الحكمة من ذلك بقوله: "ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة".
ومعنى هذا الكلام النبوي العظيم: أن كل إنسان مقدر له أن يوجد ويخلق إلى قيام الساعة، فقد كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ أرزاق الخلاق وآجالهم وأعمالهم، فما قدر الله وجوده سيكون موجودًا لا محالة، وما لم يقدر له ذلك فلن يوجد، سواء فعل الإنسان سببًا (كالعزل) أو لم يفعله. فالقدر السابق هو الذي يحكم، وليس الفعل البشري وحده.

---

3. الدروس المستفادة والعبر:

1- التسليم لقضاء الله وقدره: الحديث يؤصل عقيدة مهمة وهي الإيمان بالقدر خيره وشره، وأن كل شيء بقضاء الله وقدره. فخلق الإنسان ووجوده مرتبط بمشيئة الله تعالى المكتوبة في الأزل.
2- استشارة أهل العلم: فيه دليل على وجوب الرجوع إلى العلماء في المسائل الشرعية وعدم التقدم بين يدي الله ورسوله، كما همشوا أولاً ثم تراجعوا فسألوا، وهذا هو الأدب الواجب.
3- جواز العزل في الأصل: فهم جمهور العلماء من قوله ﷺ "ما عليكم أن لا تفعلوا" أن العزل جائز إذا كان بإذن الزوجة أو الأمة، لأنه لو كان حرامًا لنهاهم عنه نهيًا صريحًا. والجواز مقيد بعدم الضرر وبموافقة الطرف الآخر.
4- الحكمة من عدم وجوب العزل: بيان أن التوكل على الله والإيمان بقدرته هو الأصل، دون تعاطٍ للأسباب مع نسيان المسبب سبحانه.
5- التيسير ورفع الحرج: جاء الجواب النبوي مبينًا لليسر ورفع الحرج عن الأمة، فلم يوجب عليهم العزل ولم يحرمه، بل ترك الأمر على الجواز.
6- الأخلاق في الحرب: الحديث يصور خلق الصحابة حيث استحوا من فعل شيء دون علم النبي ﷺ، كما أنه يشير إلى التعامل مع الأسرى within الأطر الشرعية.

---

4. معلومات إضافية:

- اختلف العلماء في حكم العزل على عدة أقوال (الجواز، الكراهة، الإباحة)، وأقواها قول الجمهور بالجواز بشروط، وهو المستفاد من هذا الحديث.
- هذا الحديث أصل من الأصول في باب الإيمان بالقدر، ويستدل به على أن أعمال العباد لا تخرج عن قدر الله تعالى ومشيئته.
- العزل من الوسائل القديمة لتنظيم النسل، والحديث يضع ضوابط شرعية للتعامل مع هذه القضية.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.