سبب نزول: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب. هذا الحديث العظيم رواه الإمام البخاري في صحيحه، وفيه دروس عظيمة في الإنصاف والعدل، والرد على التعصب والهوى.

---

أولاً. شرح مفردات الحديث:

● خاصم: تخاصم وتنازع معه في أمر.
● شِراج الحَرَّة: (الشِّراج) جمع شِرْج، وهو المسيل أو القناة الصغيرة التي يجري فيها الماء لسقي المزروعات. و(الحَرَّة) هي أرض ذات حجارة سوداء بركانية، وهي معروفة في المدينة المنورة.
● يسقون بها النخل: يستخدمون هذا الماء لري أشجار النخيل.
● سرِّح الماء يمر: اطلق الماء ليمر إلى أرضي (أي دع الماء يجري إلى بستاني بعد أن تروي بستانك).
● فتلوّن وجه رسول الله ﷺ: تغير لون وجهه الشريف وغضب من قول الأنصاري.
● حتَّى يَرْجِعَ إلى الجِدار: حتى يعود الماء إلى الجدار (أي حتى يصل الماء إلى أصل الجدار المحيط بالبستان، وهو علامة على انتهاء حاجة الأرض من الماء).

---

ثانياً. شرح الحديث:

يحدثنا عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أن رجلاً من الأنصار - وهم أهل المدينة ونصرة الإسلام - قد تخاصم مع الزبير بن العوام - وهو من المهاجرين وابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم - أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان موضوع الخصومة هو حق استعمال الماء من القناة المشتركة بينهما لسقي النخيل. فطالب الأنصاري أن يطلق الزبير الماء إلى بستانه بعد أن يسقي، لكن الزبير رفض، لأنه يريد أن يستفيد من الماء تماماً ولا يفيض عنه شيء للجار.
فاحتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفصل بينهما. فحكم النبي صلى الله عليه وسلم للزبير بحقه، وأمره أن يسقي أرضه أولاً، ثم يطلق الماء بعد ذلك إلى جاره الأنصاري.
هنا، غضب الأنصاري واعتقد أن الحكم إنما جاء لمجرد القرابة، فقال مغاضباً: "أن كان ابن عمتك؟!"، أي: هل حكمت له لأنه ابن عمتك؟!
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً حتى تغير لون وجهه الشريف من هذا الاتهام الجائر، الذي يتهم فيه النبي بعدل الله الذي جعله فيه. فغيّر حكمه من منطلق العدل المحض، وقال للزبير: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدار". أي اسقِ حتى تشبع أرضك ويصل الماء إلى أصل الجدار، وبعدها لا تطلق الماء للجار، بل امنعه. وهذا حكم أشد على الزبير، ليرد على الأنصاري ويتعلم أن حكم النبي ليس بالهوى.
ففهم الزبير رضي الله عنه أن هذا الموقف كان اختباراً عظيماً لإيمان الصحابة، وأنزل الله تعالى فيه قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. فالإيمان الحقيقي يقتضي الرضا بحكم النبي والتسليم له من دون تردد أو اعتراض.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- عدل النبي صلى الله عليه وسلم: فهو لا يحابي أحداً، حتى لو كان أقرب الناس إليه. حكم أولاً للزبير لأنه صاحب الحق، ثم غيّر حكمه ليقطع شبهة المحاباة ويؤكد معنى العدل المطلق.
2- ذم التعصب والهوى: غضب الأنصاري كان ناتجاً عن هوى النفس وشيطان الوسوسة الذي ألقى في روعه أن الحكم محاباة. وهذا دليل على خطر التعصب القبلي أو العصبية الجاهلية.
3- وجوب الرضا بحكم الله ورسوله: الآية الكريمة التي استشهد بها الزبير تؤكد أن من صفات المؤمن الحق أنه لا يجد في صدره ضيقاً أو حرجاً من حكم النبي، بل يسلم له تسليماً كاملاً.
4- الحكمة في معالجة المواقف: لم يغضب النبي من طلب الأنصاري الأول، بل حكم بالعدل. لكنه غضب عندما اتهم في عدله. فغيّر حكمه تغييراً حكيماً يعلم الجميع درساً في الإنصاف والتسليم.
5- حق الجوار وحدوده: القضية تذكرنا بأهمية حقوق الجوار، ولكن في إطار العدل وعدم التعدي على حقوق الآخرين. فلكل صاحب حق حقه.

---

رابعاً. معلومات إضافية:

● الزبير بن العوام رضي الله عنه هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى، وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم (صفية بنت عبد المطلب).
- هذا الحديث من أبلغ الأدلة على نزاهة القضاء النبوي وعدالته التي لا تشوبها شائبة.
- يستدل الفقهاء بهذا الحديث على مسألة "حق الشرب" و"تقديم صاحب الأرض الأعلى في الاستقاء على الأسفل"، وهو ما يعرف بـ "حق القِرى" (أي صاحب الأرض القريبة من منبع الماء).
أسأل الله أن يفقهنا في الدين، وأن يرضينا بحكمه وقضائه، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.