رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغمرة على أخيه

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أهلاً بك أيها السائل الكريم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب. هذا حديث عظيم يتعلق بأحكام الشهادات في الإسلام، والتي هي من أصول القضاء والعدل. سأشرحه لك جزءاً جزءاً بإذن الله، معتمداً على كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.
### أولاً. نص الحديث ومصدره
الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، والدارقطني، وابن ماجه، والحاكم، وهو حديث حسن بشواهده. وهو عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

### ثانياً. شرح المفردات
1- رد شهادة: أي لم يقبلها ولم يجزها، وحكم بعدم صلاحيتها.
2- الخائن والخائنة: الذي يتصف بالخيانة، سواء في الأمانة المادية أو في الدين والشرف.
3- ذي الغِمرة على أخيه: "الغِمرة" (بكسر الغين) هي العداوة والبغضاء والحقد. فصاحب العداوة لا تقبل شهادته على عدوه.
4- القانع لأهل البيت: "القانع" هو الخادم أو التابع الذي يقنع بما يعطاه من الصدقة أو الهبة، أي الخادم أو الساكن في البيت الذي ليس من أهل الأسرة الأصليين.
5- أجازها لغيرهم: أي قبل شهادة من ليس على هذه الصفات، فهي الشهادة المقبولة عند توفر شروط العدالة الأخرى.

### ثالثاً. شرح الحديث ومعناه الإجمالي
يُبيّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أربعة أصناف من الناس لا تُقبل شهادتهم في القضاء لوجود سبب يقدح في عدالتهم أو يثير الشك في صدقهم وحيادهم:
1- الخائن والخائنة: لأن الخيانة نقص في الدين والخلق، وهي دليل على عدم المروءة والاستهانة بحقوق الآخرين. فكيف يوثق بشهادة من لا يخشى الله في الأمانات؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27].
2- ذي الغِمرة على أخيه: أي الشخص الذي بينه وبين الشخص الذي يشهد عليه عداوة أو بغضاء ظاهرة. فالعداوة تدفع الإنسان إلى الكذب والانتقام والتشهير، مما يفقد شهادته صفة الحياد والموضوعية، وهي شرط أساسي لقبول الشهادة.
3- القانع لأهل البيت: وهو الخادم أو التابع الذي يعيش في كنف الأسرة ويكون تحت تأثيرها المادي والمعنوي. خشي الشارع أن يدفعه الطمع في الإحسان أو الخوف من فقدان النفع إلى مجاملة أهل البيت والتحيز لهم، فيشهد زوراً لينال رضاهم أو يحافظ على معيشته.
ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الشهادة مقبولة لغير هؤلاء، أي من كان عدلاً لا صفة من هذه الصفات القادحة فيه، مما يدل على أن أصل الشهادة مقبول إذا توفرت شروطها من العدالة والضبط.

### رابعاً. الدروس المستفادة والفقه في الحديث
1- الحكمة من التشريع: يهدف الإسلام إلى إقامة العدل وقطع دابر الظلم والفساد. فرفض شهادة هذه الأصناف هو حماية للقضاء من الشهادات الزور والكذب التي تؤدي إلى ضياع الحقوق.
2- العدالة شرط أساسي في الشاهد: الحديث يؤكد على شرط العدالة في الشاهد، وهي الاستقامة على الدين والمروءة. فمن كانت فيه خصلة من هذه الخصال سقطت عدالته في باب الشهادات.
3- سد الذرائع: منع شهادة "القانع" هو تطبيق لسد الذرائع، أي منع أي طريق قد يؤدي إلى الوقوع في المحظور (الكذب في الشهادة) حتى لو لم يحدث يقيناً.
4- الموضوعية والحياد: يشترط في الشاهد أن يكون محايداً، خالياً من الأهواء والعلاقات التي قد تؤثر على مصداقيته، كالعداوة أو التبعية المالية.
5- الفقه التفصيلي: ذهب جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) إلى أن شهادة الخائن وذي العداوة مردودة. وأما شهادة القانع (الخادم) لأهل البيت الذي يعيش معهم، فمختلف فيها، والراجح منعها للحديث، إلا إذا كانت الشهادة لصالحهم (كشهادة على دين عليه) فهذه تقبل عند بعض العلماء.

---

خامساً:

خلاصة وتأصيل
يؤسس هذا الحديث لقاعدة عظيمة في judicial system (النظام القضائي) الإسلامي، وهي أن الشهادة ليست مجرد نقل للخبر، بل هي أمانة دينية وقضائية. فلا تقبل إلا ممن توفرت فيه شروط الأمانة والعدالة والحياد. وهو منهج متكامل يحقق المقصد الشرعي من إقامة القسط والعدل بين الناس.
أسأل الله أن يفقهنا في الدين، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.