لم يتوضأ النبي ﷺ من أكل السويق

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا حديث صحيح رواه الإمام البخاري في صحيحه، وسأشرحه لك جزءاً جزءاً بإذن الله، معتمداً على كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.
أولاً: شرح مفردات الحديث:
* سُوَيد بن النعمان رضي الله عنه: صحابي جليل، شهد بيعة الرضوان وغزوة خيبر.
* خيبر: مدينة ذات حصون ومزارع، تقع شمال المدينة المنورة، كانت تسكنها قبائل يهودية، وحدثت فيها غزوة مشهورة.
* الصهباء: موضع قريب من خيبر، كما بين الحديث نفسه.
* الأزواد: جمع "زاد"، وهو الطعام الذي يُتزود به في السفر.
* السَّوِيق: طعام كان شائعاً، يصنع منطحن الحنطة أو الشعير يُخلط بالماء أو السمن.
* فثُرِّي: أي فُتَّ ونُثر وخلط بالماء أو اللبن ليصير طعاماً يُؤكل. والفعل من الثراء، وليس له علاقة بالغنى المالي.
* فمضمض: أدخل الماء في فمه ثم طرحه، وهذا هو معنى المضمضة في الوضوء.
ثانياً: المعنى الإجمالي للحديث:
يخبر الصحابي الجليل سويد بن النعمان رضي الله عنه أنه كان في رفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر. وعندما وصلوا إلى مكان يسمى "الصهباء" قرب خيبر، نزلوا وصلوا صلاة العصر. ثم طلب النبي صلى الله عليه وسلم الطعام الذي معهم، فلم يجدوا إلا شيئاً يسيراً هو "السويق". فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحضاره وخلطه بالماء (أو اللبن) فأكل منه وأكل الصحابة معه.
ثم حين حان وقت صلاة المغرب، قام النبي صلى الله عليه وسلم فمضمض فمه فقط (لإزالة أثر الطعام)، ومضمض الصحابة كذلك، ثم صلى بهم صلاة المغرب من غير أن يتوضأ وضوءاً كاملاً للصلاة، واكتفى بالمضمضة فقط.
ثالثاً: الدروس المستفادة والفقه في الحديث:
هذا الحديث من الأحاديث المهمة التي تُستنبط منها عدد من الأحكام والفوائد العظيمة:
1- جواز تأخير الطعام إلى ما بعد الصلاة: صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر أولاً ثم طلب الطعام بعدها، مما يدل على أن تأخير الطعام الحلال إلى ما بعد الصلاة جائز ولا حرج فيه، خاصة إذا كان هناك انشغال أو مصلحة.
2- التقشف والزهد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ولم يكن مع الجيش إلا طعام بسيط جداً هو السويق، وهذا يدل على زهده وصبره وقناعته بما عند الله، وأنه لم يكن يطلب الترف في حال السفر والحرب.
3- أكل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه: لم يعتزلهم بطعام خاص، بل أكل معهم مما يدل على تواضعه الجم وحسن صحبته لأمته.
4- أهمية تنظيف الفم من بقايا الطعام قبل الصلاة: وذلك بالمضمضة، حرصاً على نظافة المصلي وخشوعه، وحتى لا يشتغل ببقايا الطعام في فمه أثناء صلاته.
5- أهم حكم في الحديث: أن أكل ما لا تتغير به رائحة الفم لا ينقض الوضوء. هذا هو الحكم الفقهي الرئيسي المستفاد من هذا الحديث. فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم المغرب بعد أكل السويق ولم يتوضأ، واكتفى بالمضمضة فقط. والسبب أن السويق طعام خفيف لا يترك رائحة قوية أو دهوناً كثيرة في الفم كاللحم أو الثوم، فلا يبطل الوضوء.
6- الفرق بين النقض والاستحباب: الحديث دليل على أن الوضوء لا يجب لمجرد الأكل أو الشرب (إذا كان مما لا يغير رائحة الفم). لكن مع ذلك، يستحب للمسلم أن يتمضمض بعد الأكل مباشرة لنظافة الفم، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يصلي بوضوئه الأول إذا كان لم ينتقض.
7- الاستدلال على أن الوضوء لا يجب بالمضمضة وحدها: لو كانت المضمضة تنقض الوضوء لما أمرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم ثم صلى من غير وضوء جديد. فدل ذلك على أن المضمطة مجرد تنظيف وليست ناقضة للوضوء.
رابعاً: معلومات إضافية مفيدة:
* هذا الحديث هو أحد الأدلة التي استدل بها جمهور العلماء (من الحنفية والمالكية والحنابلة) على أن الأكل والشرب وحدهما لا ينقضان الوضوء، ما لم يكن الطعام لحماً (عند الحنابلة) أو ما يغير رائحة الفم تغيراً بيناً.
* خالف في ذلك الشافعية، فقالوا بنقض الوضوء بأكل لحم الإبل فقط.
* فعل النبي صلى الله عليه وسلم للمضمضة هنا من باب الاستحباب والتنظف لأجل الصلاة، وهو من كمال الأدب مع الله تعالى.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.