ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، و نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا و أن ينفعنا بما علمنا و أن يزيدنا علما وفقها في الدين، وأن يغفر ذنوبنا ويستر عيوبنا ويجعلنا هداة مهتدين. هذا حديث عظيم فيه توجيهات نبوية كريمة تتعلق بأهم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي الصلاة. سأشرحه لك جزءاً جزءاً مستنداً إلى كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.

### ثانياً. شرح مفردات الحديث
● ينقر في سجوده: النقر هو العجل والإسراع الشديد، يشبه نقر الغراب لمنقاره في الأرض. أي أنه يسجد سجدة خفيفة سريعة غير مطمئن فيها.
● مات على غير ملّة محمد: أي مات على غير الطريقة والمنهاج الذي جاء به النبي ﷺ.
● أسبغوا الوضوء: أي أكمِلوا الوضوء وأحسنوه، بأن يصل الماء إلى جميع الأعضاء المفروضة، ومن ذلك غسل القدمين وغسل ما بين الأصابع وعدم ترك أي جزء جافاً.
● ويل للأعقاب من النار: "ويل" كلمة وعيد شديد تدل على عذاب أو هلاك. والأعقاب: هي مؤخرة القدم (الكعبين). أي أن من لا يغسلها في وضوئه فهو متوعد بالنار.
● أتموا الركوع والسجود: أي أكمِلوهما وأحسنوا هيئتهما بالطمأنينة والاعتدال، وعدم العجلة فيهما.

### ثالثاً. المعنى الإجمالي للحديث
يصور لنا النبي ﷺ مشهداً تعليمياً رائعاً: فهو يصلي بأصحابه، ثم بعد انتهاء الصلاة يجلس بينهم ليعلّمهم، فيدخل رجل مسرعاً فيقوم ليصلي منفرداً، ولكن صلاته مليئة بالخلل؛ فهو يركع ويسجد بسرعة شديدة دون طمأنينة، كأنه ينقر نقرة الغراب.
فانتبه النبي ﷺ لهذا المنظر الخطير، وأراد أن ينبه أصحابه والأمة من بعدهم إلى خطورة هذا الفعل، فشبه هذا الشخص بغذاء لا يُشبع، وبعاقبة وخيمة هي الموت على غير الإسلام إن استمر على هذا المنهج. ثم عمّم الحديث ليشمل توجيهات أخرى متعلقة بإتقان الوضوء والصلاة.

### رابعاً. الدروس المستفادة والفقه في الحديث
1- وجوب الطمأنينة في الصلاة وهي الركن الأهم بعد الأركان الظاهرة: الطمأنينة (الاستقرار والهدوء في كل ركن) هي روح الصلاة. بدونها تكون الصلاة كالجسد بلا روح. وقد بين النبي ﷺ أن من ينقر صلاته لم يأت بالصلاة التي أمر الله بها، فكأنه لم يصلِّ، وهذا من أكبر الخطر.
2- خطورة الاستهانة بأركان الصلاة وواجباتها: الحديث يصل إلى درجة التغليظ الشديد، حيث وصف من يموت على هذه الحالة (الإسرار الشديد وعدم الطمأنينة) بأنه "مات على غير ملة محمد". وهذا تحذير من أن ترك الأركان الأساسية كالطمأنينة قد يخرج الصلاة عن كونها صلاة شرعية مقبولة.
3- تشبيه بليغ للناقر في صلاته:
● بنقر الغراب: الغراب عندما ينقر شيئاً (كدم أو طعام) ينقر نقرة سريعة ثم يرفع رأسه. فكذا المصلي الذي لا يستقر في سجوده.
● كالجائع الذي لا يأكل إلا تمرة أو تمرتين: التمرة أو التمرتان لا تُشبعان جائعاً، ولا تفيدانه. فكذا الصلاة المنقورة لا فائدة فيها ولا ثمرة تحقق معنى العبادة والخضوع لله.
4- التأكيد على إسباغ الوضوء وإكماله: ربط النبي ﷺ بين إتقان الصلاة وإتقان الوضوء، لأنها مقدمتها. وأكد على غسل الأعقاب تحديداً لأنها من الأماكن التي قد يغفل عنها الإنسان.
5- مسؤولية العلماء والقادة في نقل العلم ونصح الأمة: الحديث نقله لنا كبار القادة والعلماء، مما يدل على أن النصيحة في الدين وتصحيح عبادة الناس هي من أهم المهمات، حتى لمن كان مشغولاً بالجهاد وإدارة الدولة.
6- أسلوب النبي ﷺ التعليمي الفريد: لم ينتقده سراً، بل جعله عبرة للجميع بطريقة عملية مرئية، ثم عمّم الحكم ليعمّ الفائدة للجميع.

---

خامساً:

تطبيق عملي لنا
● مراجعة الصلاة: على كل مسلم أن يراجع طمأنينته في ركوعه وسجوده. أن يستقر في الركوع بقدر ما يقول "سبحان ربي العظيم" ثلاث مرات على الأقل، وفي السجود بقدر ما يقول "سبحان ربي الأعلى" ثلاث مرات. هذه هي الطمأنينة المجزئة.
● إتقان الوضوء: التأكد من وصول الماء إلى جميع أعضاء الوضوء، وخاصة القدمين وما بين الأصابع والأعقاب.
● الفهم الصحيح: أن الصلاة هي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، فإذا صلحت صلح سائر عمله، وإذا فسدت فسد سائر عمله. فلا ينبغي أن نستهين بها.
أسأل الله تعالى أن يزيدنا علما وجزاكم الله خيرا