إن الله مع القاضي ما لم يجر

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا حديث عظيم من أحاديث الرسول ﷺ الذي يبين أهمية العدل في القضاء وخطورة الجور فيه. سأشرحه لك جزءاً جزءاً مستنداً إلى كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.

---

الحديث بلفظه:

عن عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ القَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ، فَإِذَا جَارَ تَخَلَّى عَنْهُ، وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ».
راوي الحديث: هو الصحابي الجليل عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي، كان من أصحاب الشجرة (بيعة الرضوان)، وتوفي سنة 87 هـ تقريباً.
مخرج الحديث: أخرجه الإمام الترمذي في سننه، والإمام ابن ماجه، والإمام الحاكم، والإمام الدارمي، وغيرهم. وحسنه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع".

---

أولاً. شرح المفردات:

● مَعَ: هنا بمعنى النصرة والتأييد والتوفيق، وليست المعية العامة التي تعني العلم والإحاطة، فالله تعالى مع كل خلقه بعلمه.
● القَاضِي: الحاكم الذي يفصل بين الناس في خصوماتهم ويحكم بينهم.
● يَجُرْ: من "الجَوْر"، وهو الظلم والانحراف عن الحق والعدل. يقال: جارَ يَجورُ جَوْراً إذا ظلم وعدل عن الطريق المستقيم.
● تَخَلَّى عَنْهُ: تركه وانصرف عنه، وسحب منه تأييده وتوفيقه.
● لَزِمَهُ الشَّيْطَانُ: صار ملازماً له لا يفارقه، فأصبح الشيطان قرينه ورفيقه الذي يوسوس له ويُزين له الباطل.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يخبرنا النبي ﷺ في هذا الحديث عن موقف الله تعالى من القاضي الذي يتولى فصل الخصومات بين الناس:
● «إِنَّ اللَّهَ مَعَ القَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ»: أي ما دام القاضي ملتزماً بالعدل، منصفاً بين الخصوم، حاكماً بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، أو بما شرعه الله من أسباب القضاء العادل، فإن الله تعالى يكون معه بتأييده وتسديده وتوفيقه. يلهمه الصواب، ويرشده إلى الحق، ويوفقه لقول العدل. هذه المعية الخاصة هي معية النصرة والتأييد للعبد على طاعته.
● «فَإِذَا جَارَ تَخَلَّى عَنْهُ»: فإذا حاد القاضي عن طريق العدل، ومال إلى الهوى، أو حكم بالظلم تعمداً، سواء كان ذلك لرشوة، أو محاباة، أو قرابة، أو عداوة، أو أي سبب من أسباب الجور، فإن الله تعالى يتخلى عن هذا القاضي، فيسحب منه بركة التوفيق والعون، ويتركه وشأنه ونفسه.
● «وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ»: عندما يتخلى الله عن العبد، يصبح فراغاً وساحة خالية يتسلط عليها الشيطان، فيلازمه ويستحوذ عليه، فيوسوس له، ويُزيّن له الباطل، ويشغله بالأهواء والآراء الفاسدة، فيزداد ظلماً وطغياناً، ويبتعد عن الحق كلية.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- عظم مسؤولية القضاء: القضاء أمانة عظيمة ومسؤولية جسيمة أمام الله تعالى، لأنه يتعلق بحقوق العباد ومصالحهم، والجور فيه من الكبائر.
2- وجوب التقوى والعدل: على القاضي أن يتقي الله في كل حكم يصدره، وأن يحرص على العدل ما استطاع، مستعيناً بالله، مستفتياً لكتابه وسنة نبيه.
3- النصرة الإلهية للمتقين: أن الله تعالى يتولى عباده المتقين وينصرهم ويوفقهم، خاصة في المواقف الصعبة التي تحتاج إلى الحكمة والعدل.
4- خطر التسليط الشيطاني: عندما يظلم العبد ويتعدى حدوده، فإنه يعرض نفسه لخسارة معية الله واكتساب معية الشيطان، وهو شر عظيم.
5- التحذير من أسباب الجور: على القاضي أن يحذر كل الحذر من الأهواء والرشوة والمجاملات التي تورده موارد الهلاك.

---

رابعاً. معلومات إضافية مفيدة:

- هذا الحديث يدخل في باب "الترغيب في العدل والترهيب من الظلم".
- يستفاد منه أن القاضي إذا اجتهد وبذل وسعه للوصول إلى الحق ثم أخطأ، فله أجر الاجتهاد، ولا يعتبر جائراً لأن الجور هو التعمد والظلم.
- من أهم كتب الفقه التي تناولت آداب القضاء وشروطه: "أدب القاضي" للخصاف، و"الذهب المسبوك في وعظ الملوك" للغزالي، وغيرها.
- العدل ليس فقط في القضاء بين المتخاصمين، بل هو شامل لكل من ولي أمراً من أمور المسلمين، كالحاكم والإمام والمدير وغيرهم.
أسأل الله أن يجعلنا من العادلين، وأن يتولانا في الدنيا والآخرة، ويبعد عنا شياطين الإنس والجن.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.