إنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
حياكم الله و بياكم أيها السائل الكريم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب. هذا حديث عظيم من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، يتعلق بمسؤولية الولاية والحكم في الإسلام، وسأشرحه لك شرحاً وافياً على النحو التالي:
### أولاً. تخريج الحديث ومصدره
هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإمارة، برقم (1825)، من رواية الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
### ثانياً. شرح المفردات
● تستعملني: أي تجعلني في منصب من مناصب الدولة والإدارة، كوالٍ على منطقة، أو قاضٍ، أو أمير على سرية.
● فضرب بيده على منكبي: فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا للتنبيه والتأكيد على أهمية ما سيقوله، ولإظهار المشاعر الأبوية والحنونة تجاه أبي ذر.
● ضعيف: المقصود هنا ليس الضعف الجسدي فقط، بل ضعف في القدرة على تحمل تبعات المنصب ومتطلباته ومغرياته. قد يكون ضعفاً في المرونة السياسية أو في القدرة على تحمل أعباء المسؤولية الإدارية المعقدة.
● أمانة: أي أن المنصب والولاية ليست وسيلة للسيطرة أو التسلط، بل هي تكليف ومسؤولية عظيمة أمام الله تعالى.
● خزي وندامة: الخزي هو العار والفضيحة، والندامة هي الحسرة والأسف الشديد يوم لا ينفع الندم.
### ثالثاً. شرح الحديث
يخبرنا الصحابي الجليل أبو ذر رضي الله عنه أنه طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوليه منصبا من مناصب الدولة، فلم يستجب له النبي مباشرة، بل ضرب على كتفه برفق وأخبره بحقيقة هذه المسؤولية.
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور جوهرية:
1- تشخيص الواقع (إنك ضعيف): هنا نرى الحكمة النبوية في تقدير الأشخاص والقدرات. لقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا ذر - رغم فضله وتقواه - فيه زهد وصراحة قد لا تناسب تعقيدات بعض المناصب التي تحتاج إلى مرونة وحكمة في التعامل مع الناس المختلفين. إنه ليس انتقاصاً من قدر أبي ذر، بل هو وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
2- حقيقة المنصب (وإنها أمانة): يغرس النبي صلى الله عليه وسلم هنا مفهوماً أخلاقياً رفيعاً، وهو أن كل منصب ومسؤولية في الإسلام هي أمانة يجب أداؤها بحق، وليست وسيلة للتفاخر أو الجاه أو جمع المال. هذا المبدأ يحول دون استغلال النفوذ ويجعل الغاية من العمل هي خدمة الناس وإقامة العدل.
3- التحذير من العاقبة (وإنها يوم القيامة خزي وندامة): هذا تحذير شديد اللهجة لكل من يتولى أمراً من أمور المسلمين. فالمنصب إذا أسيء استخدامه، وتحول من أمانة إلى خيانة، فإن عاقبته وخيمة يوم القيامة، حيث يحاسب الإنسان على كل صغيرة وكبيرة.
4- استثناء الناجين (إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها): يبين الحديث أن هناك من ينجو من هذا الخزي والندامة، وهم من توفرت فيهم صفتان:
● أخذها بحقها: أي لم يسعَ لها بالوسائل غير المشروعة (كالمحسوبية والرشوة)، وتولّاها بنية صالحة خالصة لوجه الله وخدمة المسلمين.
● أدى الذي عليه فيها: أي قام بواجبات المنصب على أكمل وجه، ونصح للأمة، وعدل بين الرعية، ولم يظلم أو يجور أو يقصّر.
### رابعاً. الدروس المستفادة والعبر
1- الحكمة في توظيف الكفاءات: على المسؤول أن يضع الأشخاص في المكان المناسب لهم، الذي يتناسب مع قدراتهم وطبيعتهم، وليس مجرد إرضاء رغباتهم.
2- المناصب مسؤولية لا مغنم: يجب أن يستحضر كل مسؤول أن منصبه أمانة سيسأل عنها بين يدي الله عز وجل.
3- التقوى شرط أساسي في القيادة: ليس الكفاءة الإدارية وحدها هي المطلوبة، بل التقوى والخوف من الله هما الضمانة لاستقامة المسؤول.
4- النصيحة للأمة: من أعظم حقوق المسلمين على حكامهم وعلمائهم وكل من له ولاية أن ينصحوا لهم ويخافوا عليهم من عذاب الله.
5- الزهد في المناصب: يستحب للمسلم أن لا يطلب الولاية ولا يتهافت عليها، لأنها محفوفة بالمخاطر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص عليه» (متفق عليه).

---

خامساً:

معلومات إضافية
- هذا الحديث هو أصل من الأصول التي بنى عليها علماء الإسلام نظريتهم في "الشروط الجوهرية للحاكم"، والتي من أهمها: الأمانة، والقوة، والكفاءة.
- قصة أبي ذر هذه تظهر صدق الصحابة وحرصهم على نفع الأمة، وليس على المناصب الدنيوية.
- ينبغي على كل مسؤول، كبيراً كان أم صغيراً (مدير، أب، معلم...) أن يتذكر هذا الحديث ويتأمل فيه، فكل إنسان هو راعٍ ومسؤول عن رعيته.
أسأل الله أن يعين ولاة أمور المسلمين على تحمل أماناتهم، وأن يجعلهم من الذين يأخذون الحق ويؤدونه، إنه سميع مجيب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.