لا يبيع بعضكم على بيع بعض

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
حياكم الله و بياكم، و نسأل الله تعالى أن يرزقنا و إياكم العلم النافع والعمل الصالح، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علما وفقها في الدين واجعلنا هداة مهتدين.
هذا حديث عظيم من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصاراً، وهو يتعلق بآداب وأحكام المعاملات التجارية، التي هي من أهم شؤون حياة الناس.

---

نص الحديث:

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلا تَلَقَّوُا السِّلَعَ حَتَّى يُهْبَطَ بِهَا إِلَى السُّوقِ».
[متفق عليه: رواه البخاري (2160) ومسلم (1515)]

---

أولاً. شرح المفردات:

● لا يبعْ بعضكم على بيع بعض: النهي عن أن يعرض شخص على مشتري قد اتفق مع بائع على شراء سلعة، أن يبيع له هو نفس السلعة بسعر أقل أو بمواصفات أفضل، فيفسخ المشتري العقد مع الأول.
● ولا تلقوا السلع: النهي عن الخروج لاستقبال التجار القادمين إلى السوق من خارج البلد (كالقوافل).
● حتى يهبط بها إلى السوق: حتى يصلوا ببضائعهم إلى مكان السوق (أي السوق نفسه) وينزلوا فيها، فيطلع الناس على السعر الحقيقي الذي جاءوا به، وتتاح الفرصة للجميع للشراء.

---

ثانياً. شرح الحديث:

يحتوي هذا الحديث على نهيين عظيمين يحفظان نظام السوق ويضمنان العدالة بين المتعاملين:
1- النهي الأول: "لا يبع بعضكم على بيع بعض"
● المعنى: هذا النهي عن ما يسمى "النجش" أو "بيع على البيع".
● الصورة: أن يتفق بائع ومشتري على سلعة بسعر معين، فيأتي شخص ثالث (غالباً من المنافسين) إلى المشتري ويقول له: "لا تشترِ منه، أنا أبيعك مثلها بسعر أقل" أو "بجودة أفضل"، فيفسخ المشتري العقد مع البائع الأول ليشتري من هذا الثاني.
● الحكمة من التحريم:
- إفساد معاملة أخيه المسلم التي كادت أن تتم.
- الغش والخداع والغدر، حيث يحرم البائع الأول من حق كان قد أكده.
- إثارة الضغائن والأحقاد بين التجار.
- أنه نوع من أكل أموال الناس بالباطل، لأن البائع الأول قد يكون قد رفض عروضاً أخرى اعتماداً على هذه الصفقة.
● حكمه: هذا النوع من البيع محرم بإجماع العلماء، وهو من كبائر الذنوب إذا ترتب عليه أضرار.
2- النهي الثاني: "ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى السوق"
● المعنى: النهي عن ما يسمى "تلقّي الركبان".
● الصورة: أن يخرج تجار المدينة (مثلاً) لاستقبال القوافل التجارية القادمة من خارج البلد قبل وصولها إلى السوق. فيشترون منهم البضائع بأسعار رخيصة لأنهم لا يعرفون أسعار السوق في المدينة، ثم يبيعونها في السوق بأسعار أعلى بعد أن احتكروا وصولها.
● الحكمة من التحريم:
● الغبن الفاحش للبائع القادم (التاجر المسافر)، لأنه يبيع بضاعته وهو جاهل بسعر السوق الحقيقي.
● الاحتكار والاستغلال، حيث يحرم تجار السوق الآخرين من فرصة الشراء من المصدر الأول بأسعار عادلة.
● الضرر بالمستهلك، حيث يبيعها المتلقي بعد ذلك بسعر مرتفع لأنه احتكرها.
● حكمه: هذا الفعل محرم، وقد ذهب جمهور العلماء (الحنفية والشافعية والحنابلة) إلى فساد بيع المتلقي إذا اشترى بهذه الطريقة. واستثنى العلماء من كان بينه وبين التاجر اتفاق مسبق على شراء بضاعته، فهذا لا يدخل في النهي.

---

ثالثاً. الدروس المستفادة والعبر:

1- النهي عن الإضرار بالمسلمين: الإسلام يمنع أي تصرف يسبب ضرراً لأحد الطرفين المتعاقدين أو لغيرهما من الناس.
2- الحفاظ على الأخوة الإسلامية: النهي عن كل ما يزرع العداوة والبغضاء بين المسلمين، ومنافسة غير شريفة تذهب بالمودة.
3- تحريم الغش والخداع: في هذين النهيين صور متعددة من الغش والخداع للبائع المسافر أو للبائع الذي اتفق مع مشتر.
4- العدالة في المعاملات: الإسلام يحرص على إقامة العدل في كل شيء، حتى في السوق وأثناء البيع والشراء.
5- تنظيم السوق Islamيًا: الإسلام سبق النظم الاقتصادية الحديثة في وضع ضوابط للسوق تمنع الاحتكار والغش وتضمن الشفافية، حيث يجب أن تصل البضاعة إلى السوق ليعلم الجميع سعرها الحقيقي.

---

رابعاً. معلومات إضافية مفيدة:

- إذا كان الشخص الذي يتلقى الركبان يشتري البضاعة ليكمل طريقه إلى سوق آخر (أي هو مسافر مثلهم وليس مقيمًا في البلد) فلا بأس بذلك، لأنه لم يحرم أهل السوق من الشراء، بل هو سينقلها لسوق آخر.
- من صور "البيع على البيع" في عصرنا: أن يتفق عميل مع وكيل سيارات على شراء سيارة معينة بسعر محدد، فيأتي وكيل آخر ويعرض على العميل نفس السيارة بسعر أقل ليجذبه إليه.
- الفرق بين "ال