أعوذ بالله منك فقال لقد عذت بعظيم

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد، فإليك شرح هذا الحديث النبوي الشريف شرحًا وافيًا، مستندًا إلى كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.

---

نص الحديث:

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "أن ابنة الجون، لما أدخلت على رسول الله ﷺ ودنا منها، قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: «لقد عُذْتِ بعظيم، الحقي بأهلك»".
(رواه البخاري في صحيحه)

---

1. شرح المفردات:

* ابنة الجون: هي جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ رضي الله عنها، سيدة من بني المصطلق، وقعت في الأسر بعد غزوة بني المصطلق (غزوة المريسيع)، وكانت تحت رجل من قومها فقتل في الغزوة، فصارت في سهم ثابت بن قيس رضي الله عنه أو لابن عم له.
* أدخلت على رسول الله ﷺ: أي أُحضرت إليه ليعتقها ويتزوجها، بعد أن جاءته لتفادي المكاتبة (فداء نفسها من الأسر).
* دنا منها: اقترب منها.
* أعوذ بالله منك: ألتجئ وأعتصم بالله تعالى منك، وهي كلمة استعاذة تقال للتحصن من شر متوقع.
* لقد عُذْتِ بعظيم: لقد استعذت واعتصمت بذات عظيمة وجليلة، وهو الله سبحانه وتعالى.
* الحقي بأهلك: ارجعي إلى عائلتك، أي أنه أعتقها ولم يتزوجها في تلك اللحظة، وتركها حرة.

---

2. شرح الحديث:

تدور قصة هذا الحديث حول السيدة جويرية بنت الحارث رضي الله عنها قبل زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم. فقد جاءت إليه لتفادي مكاتبتها (أي لتعتق نفسها من الأسر بدفع مال)، فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم ورغب في زواجها، عرض عليها أن يقوم هو بدفع مكاتبتها ويتزوجها، فوافقت.
وفي رواية أخرى في "صحيح البخاري" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لثابت بن قيس (أو لابن عمه الذي كان لها في سهمه): «أَعْطِهَا الْكِتَابَةَ وَخُذْ مِنْهَا»، أي اتركها حرة وخذ منها المال الذي ستفتدي به نفسها. ثم قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «اخْتَارِي، إِنْ اخْتَرْتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ، وَإِنْ اخْتَرْتِ قَوْمَكِ رَدَدْتُهُمْ إِلَيْهِمْ». فاختارت الله ورسوله، فتزوجها صلى الله عليه وسلم.
وفي اللحظة التي دخلت فيها عليه ودنا منها، خافت وارتاعت، فانطلقت لسانها بهذه الكلمة التي تعبر عن خوفها وحيائها: "أعوذ بالله منك". فلم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعنفها، بل قابل ذلك الموقف بأعظم ما يكون من الخلق والحكمة والرحمة.
* قوله صلى الله عليه وسلم: «لقد عُذْتِ بعظيم»: هذا تصديق وتأكيد لعظم من استعاذت به، وهو الله تعالى. فهو إقرار منه صلى الله عليه وسلم بأن الله هو الملجأ الحقيقي والعظيم، وفي هذا تعليم للأمة أن تستعيذ بالله حقًا وتصدق في لجوئها إليه.
* قوله صلى الله عليه وسلم: «الحقي بأهلك»: هذا تطبيق عملي لاستعاذتها. فما دامت قد استعاذت بالله، فقد استحقت الحماية والأمان، فأمرها بالرجوع إلى أهلها، معطيًا إياها حريتها كاملة غير منقوصة، دون أن يمسها بأذى أو يلحقها ضرر. وهذا أبلغ رد على خوفها، حيث أمنها وأطلق سراحها.
ثم، كما هو ثابت في الروايات الأخرى، بعد أن رأت من أخلاقه العظيمة وكرمه وعدله، واختارت البقاء معه وتزوجها صلى الله عليه وسلم، فكانت أمًا للمؤمنين رضي الله عنها وأرضاها.

---

3. الدروس المستفادة والعبر:

1- عظمة خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم: يتجلى في هذا الموقف رحمته صلى الله عليه وسلم، وحلمه، وصبره، وكمال أدبه. فلم يغضب لقولها، بل قابل الخوف بالطمأنينة، والاستعاذة بالتكريم والتحرير.
2- احترام اختيار المرأة وإرادتها: لم يجبرها النبي صلى الله عليه وسلم على شيء، بل أعطاها الخيار كاملًا بين البقاء معه أو الرجوع إلى قومها، وهذا تكريم للإنسان وخاصة المرأة.
3- التصديق في اللجوء إلى الله: عندما يلجأ العبد إلى الله حقًا، فإن الله يكرمه ويحفظه، كما كرم النبي صلى الله عليه وسلم هذه المرأة بسبب استعاذتها.
4- الحكمة في معاملة الناس: كان بإمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن يفسر قولها على أنه إهانة، لكنه فهم أنها صادرة عن خوف طبيعي، فعامَلها بما يليق بحالها. وهذا درس في حسن الظن والتأني في الحكم على تصرفات الآخرين.
5- فضل عتق الرقاب: كان من هديه صلى الله عليه وسلم عتق الرقاب وتحريرها، وقد كان زواجه ببعض أمهات المؤمنين سببًا في عتق أسرهن وقبيلتهن، كما حصل مع السيدة جويرية، حيث أعتق المسلمون مئة من أهل بيتها بسبب زواجه بها.

---

4. معلومات إضافية:

* كان زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة جويرية رضي الله عنها ذا أثر اجتماعي كبير، حيث قال الصح