بيع ثمر النخل حتى تزهو

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فهذا حديث عظيم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يوضح جانبًا من جوانب رحمته بالأمة وحرصه على سلامة معاملاتهم، وقطع أسباب النزاع والخصام بينهم.

---

الحديث بلفظه:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ثمر النخل حتى تزهو. فقلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمر، وتصفر، أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك.

---

أولاً. شرح المفردات:

* نهى: أي حرّم وأمر بالترك.
* ثمر النخل: هو ما ينتجه النخل من الرطب والتمر.
* حتى تزهو: "تزهو" من الزهو، وهو الظهور والاعتداد والحسن. والمقصود هنا أن تظهر عليها علامات النضج والإصابة بعلامات الصلاح.
* تحمر وتصفر: هذه هي علامات الزهو التي فسرها أنس رضي الله عنه، أي أن تبدأ الثمرة في تغيير لونها من الأخضر إلى الأحمر أو الأصفر، دلالة على بدء نضجها.
* إن منع الله الثمرة: أي إن منع الله الثمرة من النضج أو أهلكها بأمر من الأمور كالريح العاصف أو الآفة.
* بم تستحل مال أخيك: أي بأي شيء أو حجة تتجرأ على أخذ مال أخيك المسلم بغير حق.

---

ثانيًا. شرح الحديث:

نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ثمار النخل وهي لا تزال صغيرة وخضراء لم تظهر عليها بعد علامات النضج (الزهو)، وهو بدء تحول لونها إلى الاحمرار أو الاصفرار.
والحكمة من هذا النهي عظيمة، وهي ما بينها الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه في تعليقه البليغ على الحديث، حيث قال: "أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك".
فالبيع في هذه المرحلة (قبل الزهو) هو بيع لمحض الغرر والجهالة، وذلك لأن:
1- الجهالة والغرر: الثمرة في بدايتها معرضة للآفات، كأن تقع عليها ريح فتقصفها، أو تصيبها آفة فتفسدها، أو لا تكمل نضجها لسبب ما. فالبائع يبيع شيئًا غير مضمون العاقبة، والمشتري يشتري شيئًا مجهول المصير. وهذا من الغرر المنهي عنه في البيع.
2- الاعتماد على السلامة من الآفات: البيع قبل ظهور علامات النضج يجعل العقد معلقًا على أمر مستقبلي غير مضمون، وهو سلامة الثمرة من العاهات حتى تنضج. وهذا يشبه بيع "الحصاة" أو بيع "الملامسة" التي كانت من بيوع الجاهلية التي أبطلها الإسلام.
3- حماية للأموال وحقوق الناس: التعليق الذي ذكره أنس رضي الله عنه هو لب الشرح وغايته. فهو يستفهم استفهام توبيخ وتقرير: إذا اشتريت الثمرة وهي خضراء ثم جاءت ريح أو آفة فأهلكتها، فأنت قد أخذت مال أخيك في مقابل لا شيء (ثمرة فاسدة أو غير موجودة). فبأي حق فعلت ذلك؟! إنه استحلال لمال المسلم بغير حق، وهو من كبائر الذنوب.

---

ثالثًا. الدروس المستفادة والفقه في الحديث:

1- تحريم بيع الغرر: الحديث أصل من أصول تحريم بيع الغرر، وهو البيع الذي فيه جهالة أو مخاطرة أو عدم تسليم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر».
2- سد الذرائع إلى الخصومة: الشريعة الإسلامية جاءت لقطع أسباب النزاع والخصام بين الناس. وبيع الثمار قبل بدو صلاحها مدعاة للنزاع بين البائع والمشتري إذا تعرضت للهلاك.
3- الضمان والتبايع على شيء معين: يشترط لصحة بيع الثمار أن تكون قد بدا صلاحها، حتى يطمئن الطرفان إلى وجود المبيع وتحدده، ويصبح مضمونًا على البائع حتى يسلمه للمشتري. فإذا هلك بعد العقد فهو من ضمان البائع.
4- حرمة مال المسلم: يستفاد من تعليق أنس رضي الله عنه التأكيد على عظمة حرمة مال المسلم، وأنه لا يجوز أكلها بالباطل بأي شكل من الأشكال، لا بالغش ولا بالغرر ولا بالربا.
5- الفقه النبوي في المعاملات: يظهر من هذا الحديث دقة التشريع الإسلامي وعدالته، حيث يراعي مصلحة الطرفين ويبني المعاملات على الوضوح والصدق واليقين، وينفي عنها الشك والجهالة والضرر.

---

رابعًا. معلومات إضافية:

* هذا الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
* حكم هذا النهي هو التحريم، وهو مذهب جمهور العلماء.
* العلة في النهي هي الجهالة والغرر وخطر الهلاك، وهذه العلة قائمة في كل بيع فيه غرر مشابه، وليس مقصورًا على النخل فقط. فيدخل فيه بيع ثمار الأشجار الأخرى قبل بدو صلاحها، وبيع الحمل في بطن أمه، وبيع اللبن في الضرع، وغيرها من بيوع الغرر.
* إذا بدا صلاح بعض الثمرة دون بعض، فالصحيح أنه يجوز بيع الجزء الذي بدا صلاحه فقط، إذا كان منفصلاً ومعلومًا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.