يد المعطي العليا أمك وأباك وأختك وأخاك

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله.
أهلاً وسهلاً بك، وأسأل الله أن ينفعنا بما نعلم وأن يعلمنا ما ينفعنا.
هذا الحديث الشريف الذي ذكر يجمع بين حكمتين عظيمتين من حكم النبي صلى الله عليه وسلم، إحداهما في باب صلة الرحم والبر، والأخرى في باب العدل وعدم تحميل النفس وزر غيرها. سأشرحه لك جزءاً جزءاً مستنداً إلى كبار شراح الحديث مثل النووي وابن حجر وغيرهم.
### أولاً. نص الحديث ورواته
الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والنسائي، وغيرهم، عن الصحابي الجليل أبي رمثة رضي الله عنه، واسمه ربيعة بن شرحبيل.

### ثانياً. شرح المفردات
* يد المعطي العليا: اليد هنا كناية عن المكانة والمنزلة والفضل. والعليا تعني الأعلى شأناً والأرفع قدراً. فكأن المعطي (الذي يعطي أهله ويصل رحمه) يرفع منزلته ويعلو شأنه.
* أمك وأباك وأختك وأخاك: هذه الأقارب الأصول والأقربون الذين تكون صلتهم أوجب وأولى.
* ثم أدناك أدناك: أي ثم الأقرب فالأقرب من الأقارب الآخرين، كالعم والخال وابن العم وابن الخال، فكلما كان أقرب في النسب كان أولى بالبر والصلة.
* بنو يربوع: هي قبيلة من قبائل العرب.
* قتلة فلان: أي هم قتلة ذلك الرجل.
* لا تجني نفس على أخرى: "تجني" من الجناية، أي لا تحمل نفس إثم وجريمة نفس أخرى، فلا يؤاخذ أحد بذنب غيره.

### ثالثاً. المعنى الإجمالي للحديث
ينقسم الحديث إلى جزأين:
1- الجزء الأول: فضل صلة الرحم وترتيب الأولويات فيها:
يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من يعطي وينفق على أهله وأقاربه تكون له منزلة عالية ويد عليا، ثم يرشدنا إلى ترتيب الأولويات في البر والصلة، فيبدأ بالأقرب فالأقرب. فأولى الناس ببرك وصلتك هم أصولك (الوالدان) ثم فروعهما المباشرة (الإخوة والأخوات)، ثم بقية الأقارب حسب درجة قرابتهم (كالأعمام، الأخوال، أولادهم... إلخ). هذا ليس حصراً للوارثين، بل بيان للأولوية في البر والمعروف.
2- الجزء الثاني: ردّ على مفهوم الجاهلية في الثأر الجماعي:
قام رجل وسأل النبي صلى الله عليه وسلم مستفهماً: "أهؤلاء (بنو يربوع) هم قتلة فلان؟"، وكانت عادة الجاهلية أنهم إذا قتل رجل من قبيلة، فإن القبيلة بأكملها تتحمل الإثم ويُطلب الثأر من أي فرد فيها. فجاء رد النبي صلى الله عليه وسلم حاسماً ليقطع هذا الشرك في الإثم، ويؤسس لمبدأ فردية المسؤولية في الإسلام، فقال: «ألا لا تجني نفس على أخرى»، أي لا تتحمل قبيلة أو عائلة إثم جريمة ارتكبها فرد أو أفراد منهم، ولا يؤاخذ أحد بجرم غيره.

### رابعاً. الدروس المستفادة والفوائد
1- الحث على صلة الرحم والإنفاق على الأقارب: يعد هذا من أعظم القربات التي ترفع منزلة العبد عند الله وتزيد في رزقه وعمره.
2- ترتيب أولويات البر: من الحكمة أن يبدأ الإنسان ببر من هم أقرب إليه، فبر الوالدين مقدم على غيرهما، ثم الإخوة، ثم الأقرب فالأقرب. هذا لا يعني إهمال الأبعد، ولكن لتكون الصلة على أساس متين ومنظم.
3- رفع منزلة المعطي: الحديث يذكر صفة "المعطي" ليبين أن العطاء والكرم من صفات المؤمن التي ترفع قدره في الدنيا والآخرة، وتكون يده -بفضل الله- هي العليا.
4- إبطال مبدأ المسؤولية الجماعية عن الجرائم: هذا من أعظم مبادئ العدل في الإسلام، حيث تقوم المسؤولية على الفردية، فلا يتحمل البرئ إثم المجرم. وهذا المبدأ مقرر في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة فاطر: 18].
5- هداية الناس من تقاليد الجاهلية: النبي صلى الله عليه وسلم كان يربي أصحابه على مفاهيم الإسلام النقية، ويحطم عادات الجاهلية الجائرة مثل الثأر الجمعي والعصبية القبلية العمياء.

---

خامساً:

معلومات إضافية مفيدة
* هذا الحديث يجمع بين أبواب مختلفة من العلم: باب صلة الرحم وآدابها، وباب العدل والقصاص في الإسلام.
* قوله صلى الله عليه وسلم: «ثم أدناك أدناك» قاعدة فقهية مهمة في توزيع الصدقات والهبات والوصايا، حيث يبدأ الإنسان بالأقربين.
* الحديث دليل على أن صلة الرحم لا تكون بالزيارة والكلام الطيب فقط، بل تشمل أيضاً المساعدة المادية والإنفاق على المحتاج من الأقارب.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يعيننا على صلة أرحامنا والعدل في أمرنا كله.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.