من أغير مني؟ والله أغير مني

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ولفهم كتابه وسنة نبيه ،وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفقهاً وتوفيقاً وأجراً إنه هو الكريم الوهاب.
هذا الحديث العظيم رواه الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما، وفيه دروس عظيمة وعبر جليلة. وإليك الشرح المفصل له:

---

1. شرح المفردات:

● سعد بن عبادة: هو سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي الأنصاري، سيد الخزرج، وكان رضي الله عنه معروفاً بالغيرة والشجاعة.
● لم أمسه: أي لم ألمسه أو أتعرض له بأذى.
● أربعة شهداء: أي أربعة شهود عدول يشهدون بأنهم رأوا الزنا بعينهم.
● أعاجله بالسيف: أي أبادره بضربه بالسيف وأقتله فوراً.
● سيّدكم: أي رئيسكم ومقدّمكم، إشارة إلى مكانة سعد بن عبادة بين قومه.
● غير: صفة من الغيرة، وهي الحمية والانفعال الشديد عند الخوف على ما يُعتز به ويُحفظ، كالعرض والشرف.

---

2. شرح الحديث:

يخبرنا الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه أن سعد بن عبادة - وهو من أكابر الصحابة وسادات الأنصار - سأل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً نابعاً من غيرته على عرضه وأهله، فقال: يا رسول الله، إذا وجدت رجلاً مع زوجتي في حالة توجب الحد (أي في حالة زنا)، أفلا أمسك عن التعرض له حتى أحضر أربعة شهود يشهدون على ما رأوه؟ (وهذا هو الشرط الشرعي لإقامة حد الزنا).
فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم تأكيداً للحكم الشرعي: «نعم»، أي نعم، يجب عليك ذلك، ولا يحل لك أن تعتدي عليه دون بينة.
فانفجرت nonة الغيرة في قلب سعد رضي الله عنه، فقال بحماس: "كلا! والذي بعثك بالحق (أقسم بالله) إن كنت لأفعل غير ذلك، سأبادر بضربه بالسيف وقتله فوراً دون انتظار".
فلم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم من هذه nonة الانفعال، بل أخذ يعلّم الأمة ويوضح لهم الحكمة، فقال لمن حوله: «اسمعوا إلى ما يقول سيدكم» أي انتبهوا لكلام زعيمكم سعد، فهو يقول هذا الكلام لشدة غيرته. ثم похاله صلى الله عليه وسلم على هذه الصفة المحمودة فقال: «إنه لغيور» أي إنه ذو غيرة قوية. ثم ارتقى بالمقارنة إلى أعلى مستوى فقال: «وأنا أغير منه» أي أنا رسول الله أغير على محارم الله أن تنتهك، وأغير على أعراض المؤمنين أن تُنتَهك. ثم ختم بأعلى مقام: «والله أغير مني» فالله سبحانه وتعالى هو الأغار على حرماته أن تنتهك، وعلى حدود أن تُعتدى، وهو الذي حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

---

3. الدروس المستفادة منه:

● إثبات صفة الغيرة لله تعالى: على الوجه اللائق بجلاله، من غير تشبيه ولا تمثيل، فغيرته سبحانه تعني كراهيته للفواحش والمعاصي وانتقامه ممن يتعدى حدوده.
● فضل الغيرة على المحارم: الغيرة على العرض والشرف من صفات المؤمنين الكمل، وهي دليل على قوة الإيمان وصحة الفطرة. وذم من لا غيرة له.
● الحكمة من اشتراط البينة: الشرع الحكيم يشترط الإثبات بأربعة شهود لحماية المجتمع من الافتراءات الكيدية، وحماية أعراض الناس من أن تهدر بالتهم الباطلة، وصيانة الدماء من أن تسفك بغير حق.
● التسامح مع حالات الانفعال العاطفي: النبي صلى الله عليه وسلم فهم طبيعة nonة سعد رضي الله عنه ولم يزجره، بل وجهه بلطف وعلم الأمة.
● توازن الشريعة: بينت القصة أن الشريعة توازن بين حق الفرد في حماية عرضه، وحق المجتمع في تحقيق العدالة ومنع الفوضى والانتقام الشخصي.
● مكانة سعد بن عبادة: اعتراف النبي صلى الله عليه وسلم بسؤدته وفضله، مع تصحيح فهمه للشرع.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

- الحديث يدل على أن الحدود لا تُقام بالشبهات أو التهم، بل لابد من إثباتها بالبينات القاطعة.
- الغيرة الممدوحة هي التي تكون في الحق وفي الحدود التي شرعها الله، لا الغيرة الجاهلية التي تدفع إلى الظلم والاعتداء.
- يستفاد من الحديث الحث على التثبت وعدم الاستعجال في إصدار الأحكام، خاصة ما تعلق منها بالأعراض والدماء.
أسأل الله أن يفقهنا في ديننا، وأن يجعلنا ممن يغار على محارم الله، ويحفظ حدودَه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.