تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حياكم الله و بياكم، و نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا و أن ينفعنا بما علمنا و أن يزيدنا علما وفقها في الدين، وأن يغفر ذنوبنا ويستر عيوبنا ويجعلنا هداة مهتدين.
الحديث الذي ذكر حديث صحيح، رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والدارقطني وغيرهم، وهو حسن.

---

1. شرح المفردات:

* تعافوا: من المُعَافَاة، وهي المصالحة والتراضي والتسامح. أي اطلبوا من بعضكم البعض العفو والصفح عن إقامة الحد.
* الحدود: جمع "حد"، وهي العقوبات المقدرة شرعاً لجرائم معينة، كحد السرقة، وحد الزنا، وحد القذف، وحد شرب الخمر.
* بلّغني: أي وصل خبر الجريمة إلى الحاكم (الإمام أو القاضي) بطريقة رسمية.
* فقد وجب: أي أصبح إقامة الحد لازماً واجباً على الحاكم، ولا يجوز له العفو عنه أو التهاون فيه.

---

2. شرح الحديث:

يوجه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث توجيهاً عظيماً للمجتمع المسلم، ويبين سياسة شرعية حكيمة في التعامل مع جرائم الحدود.
* "تعافوا الحدود فيما بينكم": هذا أمر وحث من النبي صلى الله عليه وسلم للمجتمع أن يتسامح ويتصالح فيما بينهم في القضايا التي توجب الحدود *قبل أن تصل إلى السلطة*. فإذا سرق أحدهم من آخر، أو قذفه، فالأولى للمجني عليه أن يعفو ويصفح ويتنازل عن حقه في إقامة الحد، طلباً للأجر من الله، وحفاظاً على روابط الأخوة، وستراً للعورة، ومنعاً للفضيحة. هذا العفو يكون بين الناس قبل رفع الأمر إلى القاضي.
* "فما بلغني من حد فقد وجب": هذا بيان للحكمة من ذلك الحث على العفو. فالنبي صلى الله عليه وسلم يوضح أنه بمجرد وصول خبر الجريمة إليه بصفته الحاكم والقائد، وقيام البينة الشرعية عليها، فإنه *لا يملك هو نفسه العفو عن إقامة الحد*. لأن الحدود ليست حقاً للفرد فحسب، بل هي حق لله تعالى، ومصلحة عامة للمجتمع، تهدف إلى ردع الجريمة وحماية المجتمع وزجر الآخرين. فإذا وصل الأمر إلى الحاكم، انتقل من كونه حقاً شخصياً يمكن العفو عنه إلى كونه حقاً عاماً لله وللمجتمع، يجب على الحاكم تطبيقه وإقامته.
خلاصة المعنى: تشجيع الناس على العفو والتسامح في حقوقهم الشخصية المتعلقة بالحدود قبل رفع الأمر إلى القضاء، لأن القاضي إذا علم بالجريمة ثبتت عليه ولم يعد له حق العفو فيها.

---

3. الدروس المستفادة منه:

1- الحكمة التشريعية: التفريق بين الحق العام (حق الله والمجتمع) والحق الخاص (حق العبد). فقبل رفع الأمر للقاضي، الحق خاص يمكن العفو عنه، وبعد الرفع يصبح حقاً عاماً يجب إنفاذه.
2- تشجيع العفو والتسامح: حث الإسلام على العفو والتصالح بين الناس، لما فيه من نشر المحبة والألفة وستر العورات وتقوية روابط المجتمع.
3- وجوب تطبيق الحدود على الحاكم: إذا ثبت الجرم بالبينة الشرعية، يجب على الحاكم تطبيق الحد وعدم التهاون فيه، تحقيقاً للعدل والردع العام.
4- ستر العورة: من حكمة العفو قبل رفع الأمر للقاضي ستر المسلم والحفاظ على سمعته ومنع الفضيحة عنه، مما قد يكون سبباً في توبته وإصلاح حاله.
5- المسؤولية الجماعية: المجتمع مسؤول عن تهيئة الأجواء للتسامح والعفو، وعدم التسارع في إشاعة الفاحشة وإبلاغ السلطات لأدنى سبب.

---

4. معلومات إضافية مفيدة:

* هذا الحديث أصل عظيم في "الصلح في الحدود" قبل رفعها إلى القضاء.
* إذا عفا المجني عليه عن القذف (مثلاً) بعد رفع الأمر إلى القاضي، فإن الحد يسقط في حق القاذف، لأن حد القذف مرتبط بحق العبد بشكل أساسي. أما في الحدود الأخرى كالزنا والسرقة وشرب الخمر، فمجرد وصولها إلى الحاكم يجعل إقامة الحد واجبة حتى لو عفا المجني عليه، لأن حق الله هو الغالب فيها.
* يستثنى من ذلك حالات الاضطرار أو الشبهة التي تدرأ الحد، كأن يسرق جائعاً لا يجد ما يأكله، فهنا توجد شبهة تمنع إقامة الحد.
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في الدين، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.