اضربوه ولا تقولوا أخزاك الله ولا تعينوا عليه الشيطان

شرح الحديث:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فأقدم لكم شرحًا وافيًا لهذا الحديث النبوي الشريف، معتمدًا على كبار شراح الحديث من أهل السنة والجماعة.
الحديث:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أُتِيَ النبيُّ ﷺ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، قال: اضْرِبُوهُ. قال أبو هريرة: فمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ، قال بَعْضُ القَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ، قال: لا تَقُولُوا هَكَذَا، لا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ.
١. شرح المفردات:
● أُتِيَ النبيُّ ﷺ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ: أُحضر إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل قد تناول الخمر وأسكر.
● اضْرِبُوهُ: أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بتأديبه وتعزيره.
● بِنَعْلِهِ: بحذائه أو نعله.
● بِثَوْبِهِ: بملابسه أو بردائه.
● انْصَرَفَ: انتهى من الضرب وذهب.
● أَخْزَاكَ اللَّهُ: دعوا عليه بالخزي والهوان (أي أذلَّك الله وأهانك).
● لا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ: لا تكونوا سببًا في زيادة تمكن الشيطان منه واستيلائه عليه.
٢. شرح الحديث:
يُبيِّن هذا الحديث موقفًا عمليًا من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم التربوية والقضائية. فقد أُحضر إليه رجل قد شرب الخمر، وهي معصية كبرى محرمة بالنص القاطع من القرآن والسنة. فأمر النبي ﷺ بتأديبه ضربًا، وهو حدُّ شارب الخمر في الشريعة الإسلامية، الذي ثبت بالسنة والإجماع.
ولم يحدد النبي ﷺ كيفية الضرب ولا آلة محددة، فتنوعت استجابة الصحابة رضي الله عنهم بين الضرب باليد (وهو أخفها) والضرب بالنعل (وهو أوسطها) والضرب بالثوب (وهو أيضًا من أنواع التأديب غير المبرح). وهذا يدل على أن المقصود هو التأديب والزجر، لا الإيذاء المفرط أو التشفي.
ثم ينتقل الموقف إلى درس أخلاقي عظيم. بعد انتهاء العقوبة، انطلق لسان أحد الحاضرين بدعوة على ذلك الرجل بالخزي بقوله: "أخزاك الله". فأنكر النبي ﷺ عليه هذا القول أشد الإنكار، وبيَّن أن هذه الدعوة ليست من هدي الإسلام، بل هي عون للشيطان على أخيه المسلم العاصي. فالعاصي وإن أُخِذ بحقه وعُوقب، يبقى أخًا في الإسلام، والهدف من العقوبة هو تطهيره وزجره، لا شتمه أو تحطيم نفسه ودعوة الشر عليه، مما قد يدفعه إلى اليأس والقنوط من رحمة الله، فيستمر في معصيته ويتمكن منه الشيطان أكثر.
٣. الدروس المستفادة منه:
● وجوب إنكار المنكر وإقامة الحدود: فإقامة الحدود شرعها الله تعالى زجرًا للعاصين وحماية للمجتمع من انتشار الفواحش.
● الحكمة والرحمة في تطبيق العقوبات: حيث كان الضرب للتأديب دون تعيين آلة محددة تشير إلى التيسير وعدم التشديد بغير داع.
● النهي عن الدعاء على العصاة بالشر والهلاك: فموقف المسلم من أخيه المخطئ يجب أن يكون موقفًا إصلاحيًا رحيمًا، يهدف إلى هدايته وإرجاعه إلى الطريق المستقيم، لا إلى إهانته أو إيذائه نفسيًا.
● عدم إعانة الشيطان: المسلم مطالب بأن يكون سببًا في الخير والهداية، لا أن يكون – عن غير قصد – عونًا للشيطان على إغواء العاصي وإبعاده عن التوبة بواسطة الدعاء عليه أو شتمه.
● التأدب مع عباد الله حتى وهم عصاة: فحق المسلم على أخيه أن ينصحه ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر بأحسن أسلوب، مع الحفاظ على كرامته الإنسانية.
● الأمل في التوبة ومغفرة الله: النهي عن الدعاء بالخزي للعاصي يشير إلى إبقاء باب الأمل مفتوحًا أمامه للتوبة والرجوع إلى الله، فالله تعالى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
٤. معلومات إضافية مفيدة:
- هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، وهو من أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى.
- حد شرب الخمر ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، ولكنه من الحدود التي تُطبق على المسلم لزجره وتطهيره، وليست عقوبة دنيوية فقط.
- يرى الفقهاء أن عقوبة شارب الخمر هي الجلد، لكنهم اختلفوا في عدد الجلدات على أقوال، وأشهرها أنـها أربعون جلدة، كما في فعل النبي ﷺ والخلفاء الراشدين، وقد تواتر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جعلها ثمانين.
- هذا الحديث من جوامع كلم النبي ﷺ، حيث جمع في عبارة موجزة "لا تعينوا عليه الشيطان" حكمة عظيمة في التعامل مع المخطئين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.